الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأوامر السابقة وترغيبِ المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز وجل قبل انقضاءِ أوانِه ببـيان استحالةِ توسُّلِ الكفار يومَ القيامة بأقوىٰ الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلاً عن نيلِ الثواب.

{ لَوْ أَنَّ لَهُمْ } أي لكل واحدٍ منهم كما في قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ } الخ، لا لجميعهم إذ ليس في ذلك هذه المرتبةُ من تهويل الأمر وتفظيعِ الحال { مَّا فِى ٱلأَرْضِ } أي من أصناف أموالِها وذخائرِها وسائرِ منافعِها قاطبةً وهو اسمُ أن ولهم خبرُها ومحلُّها الرفعُ بلا خلاف، خلا أنه عند سيبويه رفعٌ على الابتداء ولا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتِها على المُسنَدِ والمُسنَد إليه، وقد اختصَّتْ من بـين سائر ما يُؤوّل بالاسم بالوقوع بعد لو، وقيل: الخبرُ محذوفٌ ثم قيل: يُقدّر مقدّماً، أي لو ثابتٌ كونُ ما في الأرض لهم. وقيل: يقدر مؤخراً أي لو كونُ ما في الأرض لهم ثابتٌ، وعند المبرِّد والزجّاج والكوفيـين رُفعَ على الفاعلية والفعلُ مقدرٌ بعد لو أي لو ثبَتَ أن لهم ما في الأرض. وقوله تعالى: { جَمِيعاً } توكيد للموصول أو حال منه { وَمِثْلَهُ } بالنصب عطفٌ عليه وقوله تعالى: { مَعَهُ } ظرفٌ وقع حالاً من المعطوفِ، والضميرُ راجعٌ إلى الموصول وفائدتُه التصريحُ بفرض كينونَتِهما لهم بطريق المعيّة لا بطريق التعاقُب تحقيقاً لكمال فظاعةِ الأمر مع ما فيه من نوع إشعارٍ بكونهما شيئاً واحداً وتمهيداً لإفراد الضمير الراجع إليهما، واللام في قوله تعالى: { لِيَفْتَدُواْ بِهِ } متعلقةٌ بما تعلق به خبرُ أن، أعني الاستقرارَ المقدَّرَ في (لهم) وبالخبر المقدّر عند من يرى تقديرَ الخبرِ مقدماً أو مؤخراً، وبالفعل المقدّر بعد لو على رأي المبرِّد ومن نحا نحوه، ولا ريب في أن مدارَ الافتداءِ بما ذُكر هو كونُه لهم لا ثبوتُ كونِه لهم وإن كان مستلزِماً له، والباء في (به) متعلقةٌ بالافتداء، والضميرُ راجعٌ إلى الموصول و(مثله) معاً، وتوحيدُه إما لما أشير إليه، وإما لإجرائه مُجرى اسمِ الإشارة كأنه قيل بذلك كما في قوله: [الرجز]
[فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَقْ]   كأنه في الجلد توليعُ البَهَقْ
أي كأن ذلك، وقيل: هو راجعٌ إلى الموصول، والعائدُ إلى المعطوف أعني (مثله) محذوفٌ، كما حُذف الخبرُ من قيارٌ في قوله [الطويل]:
[فمن تكُ أَمْسَى بالمدينة رَحْلُهُ]   فإني وقيارٌ بها لغريبُ
أي وقيار أيضاً غريبُ، وقد جوَّزَ أن يكون نُصب و(مثلَه) على أنه مفعولٌ معه ناصِبُه الفعلُ المقدر بعد لو تفريعاً على مذهب المبرد، ومن رأى رأيَه، وأنت خبـيرٌ بأنه يؤدِّي إلى كونِ الرافعِ للفاعل غيرَ الناصب للمفعول معه لأن المعنى على اعتبارِ المعيةِ بـين (ما في الأرض ومثله) في الكينونة لهم، لا في ثبوت تلك الكينونةِ وتحقُقِها، ولا مَساغَ لجعل ناصبِه الاستقرارَ المقدرَ في (لهم)، لِما أن سيبويهِ قد نصَّ على { أنَّ } اسمَ الإشارةِ وحرفَ الجر المتضمِّنَ للاستقرار لا يعمَلانِ في المفعول معه وأن قوله: هذا لك وأباك قبـيحٌ وإن جوزه بعضُ النحاة في الظروف وحرف الجر، وقولُه تعالى: { مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } متعلقٌ بالافتداء أيضاً، أي لو أن (ما في الأرض مثله) ثابتٌ لهم ليجعلوه فديةً لأنفسِهم من العذاب الواقعِ يومئذ.

السابقالتالي
2