الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِي ٱلأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ }

{ مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ } شروعٌ فيما هو المقصودُ من تلاوة النبأ من بـيان بعضٍ آخرَ من جنايات بني إسرائيل ومعاصيهم، وذلك إشارةٌ إلى عِظم شأنِ القتلِ وإفراطِ قُبحِه المفهومَين مما ذكر في تضاعيف القِصّةِ من استعظام هابـيلَ له وكمالِ اجتنابه عن مباشرته، وإن كان ذلك بطريق الدفعِ عن نفسه واستسلامه لأن يُقتلَ خوفاً من عقابه وبـيانِ استتباعِه لتحمل القاتلِ لإثم المقتول ومن كون قابـيلَ بمباشرته من جُملة الخاسرين دينَهم ودنياهم ومن ندامته على فعله مع ما فيه من العتوّ وشدة الشكيمةِ وقساوةِ القلب، والأجْلُ في الأصل مصدر أجَل شراً إذا جناه، استعمل في تعليل الجناياتِ كما في قولهم: من جرّاك فعلتُه أي من أن جرَرْتَه وجنيتَه، ثم اتُّسع فيه واستُعمل في كل تعليل، وقرىء من إِجْل بكسر الهمزة وهي لغة فيه، وقرىء مِنَ اجْل بحذف الهمزة وإلقاء فتحتها على النون، ومن لابتداء الغايةِ متعلقةٌ بقوله تعالى: { كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ } وتقديمُها عليه للقصر أي من ذلك ابتداءُ الكَتْب، ومنه نشأ لا من شيء آخرَ، أي قضينا عليهم وبـيّنا { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً } واحدةً من النفوس { بِغَيْرِ نَفْسٍ } أي بغير قتلِ نفسٍ يوجب الاقتصاص { أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ } أي فساد يوجب إهدارَ دمِها، وهو عطفٌ على ما أضيف إليه (غير) على معنى نفي كِلا الأمرين، كما في قولك: من صلّى بغير وضوءٍ أو تيمُّمٍ بطلت صلاتُه، لا نفيِ أحدِهما، كما في قولك: من صلّى بغير وضوءٍ أو ثوبٍ بطلت صلاتُه، ومدارُ الاستعمالين اعتبارُ ورودِ النفي على ما يُستفاد من كلمة أو من الترديد بـين الأمرين المنبىء عن التخيـير والإباحة، واعتبارِ العكس، ومناطُ الاعتبارين اختلافُ حالِ ما أضيف إليه (غير) من الأمرين بحسب اشتراطِ نقيضِ الحُكمِ بتحقق أحدِهما، واشتراطِه بتحققهما معاً، ففي الأول يرد النفيُ على الترديد الواقعِ بـين الأمرين قبل ورودِه فيفقِدُ نفيَهما معاً وفي الثاني يرد الترديدُ على النفي فيفيد نفيَ أحدهما حتماً إذ ليس قبل ورودِ النفيِ ترديدٌ حتى يُتصَوَّر عكسُه.

وتوضيحُه أن كلَّ حكمٍ شُرِطَ بتحقق أحدِ شيئين مثلاً فنقيضُه مشروطٌ بانتفائهما معاً، وكلَّ حكمٍ شرُط بتحققهما معاً فنقيضُه مشروطٌ بانتفاء أحدِهما ضرورةَ أن نقيضَ كلِّ شيءٍ مشروطٌ بنقيض شرطِه، ولا ريب في أن نقيضَ الإيجابِ الجزئي كما في الحكم الأول هو السلبُ الكليُّ، ونقيضَ الإيجابِ الكليِّ، كما في الحكم الثاني هو رفعُه المستلزِمُ للسلب الجزئي، فثبت اشتراطُ نقيضِ الأولِ بانتفائهما معاً واشتراطُ نقيضِ الثاني بانتفاء أحدِهما، ولمّا كان الحكمُ في قولك: من صلى بوضوء أو تيممٍ صحت صلاتُه مشروطاً بتحقق أحدِهما مُبْهماً كان نقيضُه في قولك: من صلى بغير وضوءٍ أو تيمم بطلتْ صلاتُه مشروطاً بنقيض الشرطِ المذكور البتةَ، وهو انتفاؤهما معاً، فتعين ورودُ النفي المستفادِ من (غير) على الترديد الواقعِ بـين الوضوء والتيمّمِ بكلمة (أو) فانتفى تحققُهما معاً ضرورةَ عمومِ النفي الواردِ على المبهم، وعلى هذا يدور ما قالوا إنه إذا قيل: جالس العلماءَ أو الزهاد ثم أُدخل عليه لا الناهية امتنع فعلُ الجميع، نحو

السابقالتالي
2