الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } * { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ }

{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } أي وسَّعَتْه وسهّلته، من طاعَ له المرتَعُ إذا اتسع، وترتيبُ التطويع على ما حُكي من مقالات هابـيلَ مع تحققه قبلها أيضاً كما يُفصح عنه قولُه: { لأقْتُلَنَّكَ } لِما أن بقاءَ الفعل بعد تقرّر ما يُزيله من الدواعي القوية وإن كان استمراراً عليه بحسَب الظاهر، لكنه في الحقيقة أمرٌ حادث وصُنع جديد، كما في قولك: وعظتُه فلم يتَّعظ، أو لأن هذه المرتبةَ من التطويع لم تكن حاصلةً قبلَ ذلك بناءً على تردُّده في قُدرته على القتل، لما أنه كان أقوى منه. وإنما حصلت بعد وقوفه على استسلام هابـيلَ وعدم معارضتِه له، والتصريحُ بأُخوَّته لكمال تقبـيحِ ما سوَّلته نفسُه. وقرىء (فطاوعت) على أنه فاعَلَ بمعنى فعل، أو على أن قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع، و(له) لزيادة الربطِ كقولك: حفظتُ لزيد مالَه { فَقَتَلَهُ } قيل: (لم يدر قابـيلُ كيف يقتل هابـيلَ، فتمثل إبليسُ وأخذ طائراً ووضع رأسه على حجر ثم شدَخها بحجر آخرَ فتعلّم منه فرضخَ رأسَ هابـيلَ بـين حجرين وهو مستسلم لا يستعصي عليه)، وقيل: اغتالَه وهو نائم، وكان لهابـيلَ يوم قُتل عشرون سنة واختلف في موضِع قتلِه، فقيل: عند عقبةِ حِراء، وقيل: بالبصرة في موضع المسجدِ الأعظم، وقيل: في جبل بود، ولما قتله تركه بالعَراء لا يدري ما يصنع به فخاف عليه السباع فحمله في جِراب على ظهره أربعين يوماً، وقيل: سنة، حتى أروح وعكفت عليه الطيور والسباع تنظر متى يرمي به فتأكلَه { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ } ديناً ودنيا.

{ فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْأَةَ أَخِيهِ } روي (أنه تعالى بعث غرابـين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخرَ فحفر له بمنقاره ورجليه حُفرة فألقاه فيها)، والمستكنُّ في (يريَه) لله تعالى أو للغراب، واللام على الأول متعلقة ببعَثَ حتماً، وعلى الثاني بـيبحث، ويجوز تعلُّقها ببعث أيضاً و(كيف) حال من ضمير (يُواري) والجملةُ ثاني مفعولي يُري، والمرادُ بسَوْءة أخيه جسدُه الميْتُ { قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من سوق الكلامِ كأنه قيل: فماذا قال عند مشاهدةِ حال الغراب؟ فقيل: قال: { يا ويلتىٰ } هي كلمةُ جَزَعٍ وتحسّرٍ والألفُ بدلٌ من ياء المتكلم والمعنى يا ويلتي احضُري فهذا أوانك، والويلُ والويلةُ الهلَكة { أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ } أي عن أن أكون { مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِى } تعجبٌ من عدم اهتدائِه إلى ما اهتدىٰ إليه الغرابُ، وقولُه تعالى: { فَأُوَارِيَ } بالنصب عطفٌ على أن أكون، وقرىء بالرفع أي فأنا أواري { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ } أي على قتله لِما كابد فيه من التحيّر في أمره وحملِه على رقبته مدةً طويلة. روي أنه لما قتله اسودّ جسدُه وكان أبـيضَ، فسأله آدمُ عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلاً، قال: بل قتلتَه ولذلك اسود جسدُك، ومكث آدمُ بعده مائةَ سنةٍ لا يضحك، وقيل: لما قتل قابـيلُ هابـيلَ هرب إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليسُ فقال له: إنما أكلت النارُ قربانَ هابـيلَ لأنه كان يخدُمها ويعبُدها، فإن عبدتَها أيضاً حصل مقصودُك، فبنى بـيتَ نارٍ فعبدها وهو أولُ مَنْ عبد النار.