الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ }

{ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ } عطف على مقدّر تعلق به قوله تعالى:وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ } [المائدة، الآية 19] الخ، وتعلُقه به من حيث إنه تمهيدٌ لما سيأتي من جِنايات بني إسرائيلَ بعد ما كُتب عليهم ما كُتب وجاءتهم الرسلُ بما جاءت به من البـينات { نَبَأَ ابْنَي آدَم } هما قابـيلُ وهابـيلُ، ونُقل عن الحسن والضحاك أنهما رجلان من بني إسرائيلَ بقرينةٍ آخِرَ القصة، وليس كذلك. أوحى الله عز وجل إلى آدمَ أن يزوج كلاًّ منهما توأمةَ الآخر وكانت توأمةُ قابـيلَ أجملَ واسمُها إقليما فحسدَه عليها أخاه وسخِط، وزعم أن ذلك ليس من عند الله تعالى بل من جهة آدمَ عليه السلام فقال لهما عليه السلام: قرِّبا قُرباناً فمِنْ أيِّكما قُبل تزوّجها، ففعلا، فنزلت نارٌ على قُربانِ هابـيلَ فأكلتْه ولم تتعرَّضْ لقُربانِ قابـيلَ، فازداد قابـيل حسَداً وسُخْطاً وفعل ما فعل، { بِٱلْحَقّ } متعلق بمحذوفٍ وقع صفةً لمصدرٍ محذوف، أي تلاوةً ملتبسةً بالحق والصِّحة، أو حالاً من فاعلِ (اتْلُ) أو من مفعوله، أي ملتبساً أنت أو [اتل] نبأَهما بالحق والصدقِ حسبما تقرّر في كتب الأولين { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَـٰناً } منصوب بالنبأ ظرفٌ له أي اتلُ قصتهما ونبأهما في ذلك الوقت، وقيل: بدلٌ منه على حذف المضافِ أي اتلُ عليهم نبأهما نبأَ ذلك الوقت، ورُد عليه بأن (إذ) لا يضاف إليها غيرُ الزمان كوقتئذ وحينئذ، والقُربان اسمٌ لما يُتقرَّب به إلى الله تعالى من نسُكٍ أو صَدَقةٍ كالحُلوان اسمٌ لما يُحْلى أي يُعطىٰ، وتوحيدُه لما أنه في الأصل مصدرٌ، وقيل: تقديره إذ قرّب كلٌّ منهما قرباناً { فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا } هو هابـيلُ، قيل: كان هو صاحبَ ضَرْعٍ وقرب جَملاً سميناً فنزلت نارٌ فأكلتْه { وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ } هو قابـيل، قيل: كان هو صاحبَ زرع وقرّب أردأَ ما عنده من القمح فلم تتعرضْ له النارُ أصلاً.

{ قَالَ } استئناف مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من سَوْق الكلام كأنه قيل: فماذا قال من لم يُتقبَّلْ قُربانه؟ فقيل: قال لأخيه ـ لِتضاعُفِ سَخَطِه وحسَدِه لما ظهر فضلُه عليه عند الله عز وجل ـ { لأَقْتُلَنَّكَ } أي والله لأقتلنَّك بالنون المشددة وقرىء بالمخففة { قَالَ } استئناف كما قبله أي قال الذي تُقُبِّل قُربانُه لمّا رأى أن حسَدَه لقَبول قُربانه وعدمِ قَبول قُربانِ نفسِه { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ } أي القربانَ { مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } لا من غيرهم، وإنما تقبَّلَ قُرباني وردّ قُربانَك لما فينا من التقوى وعدمِه، أي إنما أُتيتَ من قِبَل نفسِك لا من قِبَلي فلم تقتلني، خلا أنه لم يصرِّحْ بذلك بل سلك مسلكَ التعريضِ حذراً من تهيـيج غضبه وحملاً له على التقوى والإقلاعِ عما نواه ولذلك أُسند الفعلُ إلى الاسم الجليل لتربـية المهابة، ثم صرح بتقواه على وجهٍ يستدعي سكونَ غيظِه لو كان له عقلٌ وازعٌ حيث قال بطريق التوكيد.