الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰقَوْمِ ٱدْخُلُوا ٱلأَرْضَ ٱلمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَٰسِرِينَ } * { قَالُوا يَامُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ }

{ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ } كرر النداء بالإضافة التشريفية اهتماماً بشأن الأمر ومبالغةً في حثهم على الامتثال به، والأرضُ هي أرضُ بـيت المقدس، سُمِّيت بذلك لأنها كانت قرارَ الأنبـياء ومسكنَ المؤمنين.

وقيل: هي الطورُ وما حوله، وقيل: دمشقُ وفِلَسطينُ وبعضُ الأردن، وقيل: هي الشام { الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أي كتَبَ في اللوح المحفوظ أنها تكونُ مسكناً لكم إن آمنتم وأطعتم لقوله تعالى لهم بعد ما عصَوْا:فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } [المائدة، الآية 26] وقولِه تعالى: { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَـٰرِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَـٰسِرِينَ } فإن ترتيبَ الخَيبة والخُسران على الارتداد يدل على اشتراط الكَتْب بالمجاهدة المترتِّبة على الإيمان والطاعة قطعاً، أي لا ترجِعوا مُدبرين خوفاً من الجبابرة، فالجار والمجرور متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من فاعل ترتدوا، ويجوز أن يتعلق بنفس الفعل، قيل: لما سمعوا أحوالهم من النقباء بكَوْا وقالوا: يا ليتنا مِتْنا بمصر، تعالَوْا نجعلُ لنا رأساً ينصرِفْ بنا إلى مصر، أو لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق بالله تعالى، وقوله: (فتنقلبوا) إما مجزومٌ عطفا على ترتدوا، أو منصوبٌ على جواب النهي، والخُسران خُسرانُ الدين والدنيا لا سيما دخولُ ما كتب لهم.

{ قَالُواْ } استئناف مبنيٌّ نشأ من مَساق الكلام كأنه قيل: فماذا قالوا بمقابلة أمرِه عليه السلام ونهيِه؟ فقيل: قالوا غيرَ ممتثِلين بذلك: { يَامُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } متغلِّبـين لا يتأتّى منازعتهم ولا يتسنى مناصبتهم. والجبارُ العاتي الذي يُجبرُ الناسَ ويقسرهم كائناً من كان على ما يريده كائناً ما كان، فعّال من جبرَه على الأمر أي أجْبَره عليه { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا } من غير صُنْع مِنْ قِبَلِنا، فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها { فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا } بسببٍ من الأسباب التي لا تعلُّقَ لنا بها { فَإِنَّا دٰخِلُونَ } حينئذ، أتَوْا بهذه الشرطية مع كون مضمونها مفهوماً مما سبق من توقيت عدمِ الدخول بخروجهم منها تصريحاً بالمقصود وتنصيصاً على أن امتناعهم من دخولها ليس إلا لمكانهم فيها، وأتَوا في الجزاء بالجملة الاسمية المصدرة بحرف التحقيق دلالةً على تقرُّر الدخول وثباتِه عند تحقّق الشرط لا محالة، وإظهاراً لكمال الرغبة فيه، وفي الامتثال بالأمر.