الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

{ يَا أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } تكريرٌ للخطاب بطريق الالتفات ولطفٌ في الدعوة { قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ } حال من رسولنا، وإيثارُه على مبـيِّناً لما مر فيما سبق، أي يبـين لكم الشرائعَ والأحكامَ الدينية المقرونة بالوعد والوعيد، ومن جملتها ما بـين في الآيات السابقة من بطلان أقاويلِكم الشنعاء، وما سيأتي من أخبار الأمم السالفة، وإنما حُذف تعويلاً على ظهور أن مجيءَ الرسول إنما هو لبـيانها، أو يفعلُ لكم البـيانَ، ويبذُله لكم في كل ما تحتاجون فيه إلى البـيان من أمور الدين، وأما تقديرُ مثل ما سبق في قوله تعالى: { كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ } كما قيل فمع كونه تكريراً من غير فائدة، يرده قوله عز وجل: { عَلَىٰ فَتْرَةٍ مَّنَ ٱلرُّسُلِ } فإن فتورَ الإرسال وانقطاعَ الوحي إنما يُحوج إلى بـيان الشرائع والأحكام لا إلى بـيان ما كتموه و(على فترة) متعلق (بجاءكم) على الظرفية كما في قوله تعالى:وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } [البقرة، الآية 102] أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع من الوحي، ومزيدِ احتياج إلى بـيان الشرائع والأحكام الدينية، أو بمحذوفٍ وقع حالاً من ضمير يبـين، أو من ضمير لكم، أي يبـين لكم ما ذُكر حال كونه على فترة من الرسل، أو حال كونكم عليها أحوجَ ما كنتم إلى البـيان، و(من الرسل) متعلق بمحذوفٍ وقع صفةً لفترة، أي كائنةٍ من الرسل مبتدَأةٍ من جهتهم.

قوله تعالى: { أَن تَقُولُواْ } تعليل لمجيء الرسول بالبـيان على حذف المضاف أي كراهةَ أن تقولوا معتذرين عن تفريطكم في مراعاة أحكام الدين { مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } وقد انطمست آثارُ الشرائع السابقة، وانقطعت أخبارُها، وزيادة (مِنْ) في الفاعل للمبالغة في نفي المجيء، وتنكير بشير ونذير للتقليل، وهذا كما ترى يقتضي أن المقدر أو المنوي فيما سبق هو الشرائع والأحكام لا كيفما كانت، بل مشفوعة بما ذكر من الوعد والوعيد، وقوله تعالى: { فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } متعلق بمحذوف ينبىء عنه الفاء الفصيحة وتُبـيِّنُ أنه مُعلَّل به، وتنوينُ (بشيرٌ ونذيرٌ) للتفخيم أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم بشير أيُّ بشيرٍ ونذير أيُّ نذير { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } فيقدِرُ على الإرسال تَتْرىٰ كما فعله بـين موسى وعيسى عليهما السلام حيث كان بـينهما ألفٌ وسبعُمائة سنة وألفُ نبـيَ وعلى الإرسال بعد الفترة كما فعله بـين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، حيث كان بـينهما ستُمائة سنةٍ أو خمسُمائةٍ وتسعٌ وستون سنةً أو خمسُمائةٍ وستٌ وأربعون سنةً وأربعةُ أنبـياءَ على ما رَوىٰ الكلبـيّ ثلاثةٌ من بني إسرائيلَ وواحدٌ من العرب خالد بن سنان العبسي، وقيل: لم يكن بعد عيسى عليه السلام إلا رسولُ الله عليه السلام وهو الأنسبُ بما في تنوين (فترةٍ) من التفخيم اللائق بمقام الامتنان عليهم بأن الرسول قد بُعث إليهم عند كمالِ حاجتهم إليه بسبب مضيِّ زمانٍ طويل بعد انقطاعِ الوحي ليهشّوا إليه ويعُدّوه أعظمَ نعمةٍ من الله تعالى، وفتحَ بابٍ إلى الرحمة، وتلزَمُهم الحجةُ فلا يَعتلُّوا غداً بأنه لم يُرسَلْ إليهم من يُنبِّههم من غفلتهم.