الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ }

{ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرٰءيلَ } كلامٌ مستأنفٌ مشتمِلٌ على ذكر بعضِ ما صدَر عن بني إسرائيلَ من الخِيانة ونقضِ الميثاق وما أدّى إليه ذلك من التّبِعاتِ، مَسوقٌ لتقرير المؤمنين على ذكر نعمةِ الله تعالى ومراعاةِ حقِّ الميثاقِ الذي واثقهم به، وتحذيرِهم من نقضِه، أو لتقرير ما ذُكر من الهم بالبطش وتحقيقِه، على تقدير كون ذلك من بني قريظة حسْبما مرّ من الرواية ببـيان أن الغدرَ والخيانة عادةٌ لهم قديمةٌ توارثوها من أسلافهم، وإظهار الاسمِ الجليل لتربـية المهابةِ وتفخيمِ الميثاق وتهويلِ الخطبِ في نقضه، مع ما فيه من رعاية حقِّ الاستئنافِ المستدعي للإنقطاع عما قبله، والالتفاتُ في قوله تعالى: { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً } للجري على سَننِ الكِبْرِياء، أو لأن البعثَ كان بواسطةِ موسى عليه السلام كما سيأتي، وتقديمُ الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مرّ مراراً من الاهتمامِ بالمقدَّم والتشويقِ إلى المؤخَّر، والنقيبُ فعيل بمعنى فاعل مشتقٌ من النَّقْب، وهو التفتيش، ومنه قوله تعالى:فَنَقَّبُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ } [ سورة ق، الآية 36] سُمِّيَ بذلك لتفتيشِه عن أحوال القومِ وأسرارِهم. قال الزجاجُ: وأصله من النقْب وهو الثقب الواسع. رُوي (أن بني إسرائيلَ لما استقروا بمصْرَ بعد مَهْلِكِ فرعونَ أمرهم الله عز وجل بالمسير إلى أَرِيحاءِ أرضِ الشام، وكان يسكُنها الجبابرةُ الكَنعانيون، وقال لهم: إني كتبتُها لكم داراً وقراراً فاخرُجوا إليها وجاهِدوا من فيها وإني ناصِرُكم، وأمر موسى عليه السلام أن يأخُذَ من كلِّ سِبطٍ نقيباً أميناً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أُمروا به توثِقَةً عليهم، فاختارَ النقباءَ وأُخذ الميثاقُ على بني إسرائيلَ وتكفَّلَ إليهم النُقباء، وسار بهم، فلما دنا من أرض كنعانَ بعث النقباءُ يتجسّسون فرأَوْا أجراماً عظيمةً وقوةً وشَوْكة، فهابوا ورَجَعوا وحدَّثوا قومَهم بما رأوا، وقد نهاهم موسى عن ذلك، فنكثوا الميثاقَ إلا كالبَ بنَ يوقنا نقيبَ سبطِ يَهوذا، ويُوشَعَ بنَ نونٍ نقيبَ سِبطِ أفرايـيمَ بن يوسُفَ الصّديقِ عليه الصلاة والسلام)، قيل: لما توجه النقباءُ إلى أرضهم للتجسس لقِيَهم عوجُ بنُ عنق، وكان طولُه ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعاً وقد عاش ثلاثة آلاف سنة، وكان على رأسه حُزمةُ حطب، فأخذهم وجعلهم في الحُزمة وانطلق بهم إلى امرأته، وقال: انظُري إلى هؤلاء الذين يزعُمون أنهم يريدون قتالنا، فطرَحهم بـين يدَيْها وقال: ألا أطحَنُهم برِجْلي، فقالت: لا بل خلِّ عنهم حتى يُخبِروا قومَهم بما رأوا، ففعل فجعلوا يتعرّفون أحوالَهم، وكان لا يحمِلُ عنقودَ عِنبِهم إلا خمسةُ رجال، أو أربعة، فلما خرج النقباءُ قال بعضُهم لبعض: إن أخبرتم بني إسرائيلَ بخبر القومِ ارتدوا عن نبـي الله، ولكنِ اكتُموه إلا عن موسى وهارونَ عليهما السلام، فيكونان هما يَريانِ رأيَهما، فأخذ بعضُهم على بعضٍ الميثاقَ ثم انصرفوا إلى موسى عليه السلام وكان معهم حبةٌ من عنبِهم وِقْرَ رجل، فنكثوا عهدَهم وجعل كلٌّ منهم ينهىٰ سِبْطه عن قتالِهم، ويُخبرهم بما رأى إلا كالبَ ويوشعَ، وكان معسكرُ موسى فرسخاً في فرسخ فجاء عوج حتى نظر إليهم ثم رجع إلى الجبل، فقور منه صخرة عظيمة على قدْرِ المعسكر ثم حملها على رأسه ليُطبِقَها عليهم فبعث الله تعالى الهُدُهُد فقوَّر من الصخرة وسَطَها المحاذِيَ لرأسه، فانتقبت فوقعت في عُنُق عوج، وطوقته فصرَعَتْه، وأقبل موسى عليه السلام وطولُه عشرةُ أذرُعٍ، وكذا طولُ العصا، فترامىٰ في السماء عشرةَ أذرع، فما أصاب العصا إلا كعبَه وهو مصروعٌ فقتله، قالوا: فأقبلت جماعةٌ ومعهم الخناجرُ حتى حزّوا رأسَه.

السابقالتالي
2