الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ }

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا } استئناف مَسوقٌ لبـيان الأحكامِ المتعلقة بأمور دنياهم إثرَ بـيانِ الأحوال المتعلقةِ بأمور دينهم، وتصديرُه بحرفي النداءِ والتنبـيه لإظهار كمالِ العناية بمضمونه، وقولُه عز وجل: { شَهَـٰدَةُ بَيْنِكُمْ } بالرفع والإضافة إلى الظرف توسعاً، إما باعتبار جَرَيانِها بـينهم، أو باعتبار تعلّقِها بما يجري بـينهم من الخصومات، مبتدأ، وقوله تعالى: { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } أي شارفه وظهرت علائمُه، ظرفٌ لها، وتقديمُ المفعول لإفادة كمالِ تمكن الفاعل عند النفْس وقت ورودِه عليها، فإنه أدخلُ في تهوين أمر الموت، وقولُه تعالى: { حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ } بدلٌ منه لا ظرف للموت كما تُوُهِّم، ولا لحضوره كما قيل، فإن في الإبدال تنبـيهاً على أن الوصية من المَهَمّات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهَلَ عنها، وقوله تعالى: { ٱثْنَانِ } خبرٌ للمبتدأ بتقدير المضاف، أي شهادةُ بـينكم حينئذ شهادةُ اثنين، أو فاعلُ (شهادةُ بـينكم) على أن خبرها محذوف، أي فيما نزل عليكم أن يشهد بـينكم اثنان، وقرىء (شهادةٌ) بالرفع والتنوين، والإعرابُ كما سبق، وقرىء (شهادةً) بالنصب والتنوين على أن عاملها المضمرَ هو العامل في اثنان أيضاً أي ليُقِمْ شهادةً بـينكم اثنان { ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ } أي من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت وأنصح له، وأقرب إلى تحرِّي ما هو أصلح له. وقيل: من المسلمين وهما صفتان لاثنان.

{ أَوْ آخَرَان } عطف على اثنان تابع له فيما ذُكر من الخبرية والفاعلية، أي أو شهادةُ آخَرَيْن أو أن يشهد بـينكم آخران، أو ليقم (شهادةً بـينكم) آخران، وقوله تعالى: { مِنْ غَيْرِكُمْ } صفةٌ (لآخَران) أي كائنان من غيركم أي من الأجانب، وقيل: من أهل الذمة، وقد كان ذلك في بدء الإسلام لعزة وجود المسلمين لا سيما في السفر، ثم نسخ. وعن مكحول أنه نسخها قوله تعالى:وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ } [الطلاق، الآية 2].

{ إِنْ أَنتُمْ } مرفوعٌ بمُضْمرٍ يفسرُه ما بعده تقديره إن ضربتم، فلما حُذف الفعل انفصل الضمير، وهذا رأيُ جمهور البَصْريـين، وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأٌ بناءً على جواز وقوعِ المبتدأ بعد إنْ الشرطية كجواز وقوعِه بعد إذا، فقوله تعالى: { ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أي سافرتم فيها، لا محل له من الإعراب عند الأولين لكونه مفسِّراً، ومرفوع على الخبرية عند الباقين. وقوله تعالى: { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ } عطفٌ على الشرطية، وجوابُه محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه، أي إن سافرتم فقاربَكم الأجلُ حينئذ، وما معكم من الأقارب أو من أهل الإسلام مَنْ يتولىٰ أمرَ الشهادة كما هو الغالب المعتاد في الأسفار، فليشهد آخرانِ أو فاستشهدوا آخَرَيْن أو فالشاهدانِ آخرانِ كذا قيل، والأنسب أن يقدَّر عينُ ما سبق، أي فآخرانِ على معنى شهادةُ بـينِكم شهادةُ آخَرَيْن، أو فأَنْ يشهَدَ آخران، على الوجوه المذكورة ثمَةَ، وقوله تعالى: { تَحْبِسُونَهُمَا } استئنافٌ وقعَ جواباً عما نشأ من اشتراط العدالة كأنه قيل: فكيف نصنع إنِ ارْتبْنا بالشاهدين؟ فقيل: تحبِسونهما وتَصْبِرونهما للتحليف { مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ } وقيل: هو صفة (لآخران)، والشرط بجوابه المحذوف اعتراضٌ فائدته الدلالة على أن اللائق إشهادُ الأقارب أو أهلِ الإسلام، وأما إشهادُ الآخَرِين فعند الضرورة المُلجئةِ إليه، وأنت خبـير بأنه يقتضي اختصاصَ الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضاً قطعاً، على أن اعتبارَ اتصافهما بذلك يأباه مقامُ الأمر بإشهادهما، إذ مآلُه فآخرانِ شأنُهما الحبسُ والتحْليف، وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قَيدِ الارتياب بهما كما يفيده الاعتراضُ الآتي، والمرادُ بالصلاة صلاةُ العصر، وعدمُ تعيـينها لتعيُّنِها عندهم بالتحْليف بعدها لأنه وقت اجتماع الناس ووقت تصادُمِ ملائكة الليل وملائكة النهار، ولأن جميع أهل الأديان يعظّمونه ويجتنبون فيه الحلِفَ الكاذب.

السابقالتالي
2 3