الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }

وقولُه تعَالَى:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوٰتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ } الخ ترغيبٌ في الانتهاءِ عمَّا نُهوا عنْهُ بعدَ الترهيبِ عنِ الإخلالِ بهِ أيْ يخفِضونَها مراعاةً للأدبِ أوْ خشيةً منْ مخالفةِ النَّهي { أُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إِلى الموصولِ باعتبارِ اتصافِه بمَا فِي حيزِ الصلةِ، وما فيهِ منْ مَعنى البعدِ مَعَ قُربِ العهدِ بالمشارِ إليهِ لمَا مرَّ مِراراً منْ تفخيمِ شأنِه وهُوَ مُبتدأٌ خبرُهُ { ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ } أيْ جرّبَها للتَّقوى ومرَّنَها عليهَا أو عَرفَها كائنةً للتَّقوى خالصةً لهَا فإِنَّ الامتحانَ سببُ المعرفةِ، واللامُ صلةٌ لمحذوفٍ أَوْ للفعلِ باعبتارِ الأصلِ أوْ ضربَ قلوبَهُم بضروبِ المحنِ والتكاليفِ الشاقَّةِ لأجلِ التَّقوى فإنَّها لا تظهرُ إلا بالاصطبارِ عليَها أو أخلصَها للتَّقوى من امتحنَ الذهبَ إذَا أذابَهُ وميزَ إبريزَهُ منْ خبثِهِ. وعنْ عمرَ رضيَ الله عنْهُ أذهبَ عَنْها الشهواتِ { لَهُمْ } في الآخرةِ { مَغْفِرَةٍ } عظيمةٌ لذنوبِهم { وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } لا يقادرُ قدرُهُ، والجملةُ إمَّا خبرٌ آخرُ لإنَّ كالجملةِ المصدرةِ باسمِ الإشارةِ أو استئنافٌ لبـيانِ جزائِهم إحماداً لحالِهم وتعريضاً بسوءِ حالِ منْ ليسَ مثلَهُم { إَنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء ٱلْحُجُرٰتِ } أيْ منْ خارجِها منْ خلفِها أوْ قُدَّامِها، وَمِنِ ابتدائيةٌ دالةٌ عَلى أنَّ المناداةَ نشأتْ منْ جهةِ الوراءِ وأنَّ المُنَادَى داخلُ الحُجرةِ لوجوبِ اختلافِ المبدأِ والمُنتهى بحسبِ الجهة بخلافِ ما لَوْ قيلَ ينادونَكَ وراءَ الحجراتِ وَقُرىءَ الحُجَرْاتِ بفتحِ الجيمِ وبسكونِها وثلاثتُها جمعُ حُجْرةٍ وهَي القطعةٌ منَ الأرضِ المحجورةِ بالحائطِ ولذلكَ يقالُ لحظيرةِ الإبلِ حُجْرةً وهيَ فُعْلةٌ منَ الحَجْر بمَعْنى مفعول كالغُرفةِ والقُبضةِ والمرادُ بَها حجراتُ أمهاتِ المؤمنينَ ومناداتُهم منْ ورائِها إمَّا بأنَّهم أتوهَا حجرةً حجرةً فنادَوهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ منْ ورائِها أَوْ بأنَّهم تفرقُوا عَلى الحجراتِ متطلبـينَ لهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فناداهُ بعضٌ منْ وراءِ هذهِ وبعضٌ منْ وراءِ تلكَ فأسندَ فعلَ الأبعاضِ إِلى الكُلَّ وقدْ جُوِّز أنْ يكُونوا قدْ نادَوُه منْ وراءِ الحجرةِ التِّي كانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فيَها وَلكنَّها جُمعتْ إجلالاً لهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وقيلَ إنَّ الذَّي ناداهُ عُيـيَنةُ بنُ حِصْنٍ الفزارِيُّ والأقرعُ بْنُ حابسٍ وَفَدا عَلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سبعينَ رجُلاً منْ بنِي تميمٍ وقتَ الظهيرةِ وهُوَ راقدٌ فقالاَ يا محمدُ اخرجْ إلينَا وإنَّما أسندَ النداءَ إلى الكُلِّ لأنَّهم رضُوا بذلكَ أوْ أُمروا بهِ أوْ لأَنَّه وجدَ فيَما بـينَهمْ { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } إذْ لَوْ كانَ لهُم عقلٌ لمَا تجاسرُوا عَلى هذهِ المرتبةِ منْ سُوءِ الأدبِ.