الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } * { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ } من آدمَ وحواءَ أوْ خلقنَا كُلَّ واحدٍ منكُم من أبٍ وأمٍ الكُلُّ سواءٌ في ذلكَ فلا وَجْهَ للتفاخرِ بالنسبِ وقَدْ جُوِّزَ أنْ يكونَ تأكيداً للنَّهي السابقِ بتقريرِ الأخوةِ المانعةِ منَ الاغتيابِ { وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ } الشَّعبُ الجمعُ العظيمُ المنتسبونَ إلى أصلٍ واحدٍ وهو يجمعُ القبائلَ، والقبـيلةُ تجمعُ العمائرَ، والعَمارةُ تجمعُ البطونَ والبطنُ يجمعُ الأفخاذَ والفَخِذُ يجمعُ الفصائلَ فخُزَيمةُ شعبٌ وكنانةُ قبـيلةٌ وقريشٌ عمارةٌ وقُصَي بطنٌ وهاشمٌ فخذٌ والعباسُ فصيلةٌ وقيلَ الشعوبُ بطونُ العجمِ والقبائلُ بطونُ العربِ { لِتَعَـٰرَفُواْ } ليعرفُ بعضُكم بعضاً بحسب الأنسابِ فلاً يعتزَى أحدٌ إلى غيرِ آبائِه، لا لتتفاخرُوا بالآباءِ والقبائلِ وتَدَّعُوا التفاوتَ والتفاضلَ في الأنسابِ وقُرِىءَ تتعارفُوا عَلى الأصلِ ولَتّعارفُوا بالإدغامِ ولتعرِفُوا { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ } تعليلٌ للنَّهِي عنِ التفاخر بالأنسابِ المستفادِ من الكلامِ بطريقِ الاستئنافِ التحقيقيِّ كأنَّه قيلَ إنَّ الأكرمَ عندَهُ تعالَى هُو الأتقَى فإنْ فاخرتُم ففاخِروا بالتَّقوى وقُرِىءَ بأَنَّ المفتوحةِ عَلى حذفِ لامِ التعليلِ كأنَّه قيلَ لَم لا نتفاخرُ بالأنسابِ فقيلَ لأَنَّ أكرمَكُم عندَ الله أتقاكُم لا أنسبُكم فإنَّ مدارَ كمالِ النفوسِ وتفاوتِ الأشخاص هُو التَّقوى فمَنْ رامَ نيلَ الدرجاتِ العُلاَ فعليهِ التَّقوى قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ " مَنْ سَرَّهُ أنْ يكونَ أكرمَ النَّاسِ فليتقِ الله " وقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ " يَا أيُّها الناسُ إنمَّا الناسُ رجلانِ مؤمنٌ تقيٌ كريمٌ عَلى الله تعَالَى وفاجرٌ شقيٌّ هينٌ على الله تعَالَى " وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما كرمُ الدُّنيا الغِنى وكرمُ الآخرةِ التَّقوى { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ } بكُم وبأعمالِكم { خَبِيرٌ } ببواطنِ أحوالِكم.

{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ ءامَنَّا } نزلتْ في نفرٍ من بَني أَسَدٍ قَدمُوا المدينةَ في سنةِ جَدْبٍ فأظهرُوا الشهادتينَ وكانُوا يقولونَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أتيناكَ بالأثقالِ والعيالِ ولمْ نقاتِلْكَ كما قاتلكَ بنُو فلانٍ يريدونَ الصدقةَ ويمنونَ عليهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ما فعلُوا { قُلْ } رَدَّاً لهُمْ { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } إذِ الإيمانُ هُوَ التصديقُ المقارنُ للثقةِ وطمأنينةِ القلبِ ولم يحصُلْ لكُم ذلكَ وإلا لِمَا مننتُمْ عليَّ ما ذكرتُم كَما ينبىءُ عَنْه آخرُ السورةِ { وَلَـٰكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } فإنَّ الإسلامَ انقيادٌ ودخولٌ في السلمِ وإظهارُ الشهادةِ وتركُ المحاربةِ مشعرٌ بهِ، وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ عَلى أنْ يقالَ لاَ تقولُوا آمنَّا ولكنْ قولُوا أسلمنَا أو لم تُؤمنِوا ولكن أسلمتُم للاحترازِ منِ النَّهي عنِ التلفظِ بالإيمانِ وللتفادِي عنْ إخراجِ قولِهم مُخرجَ التسليمِ والاعتدادِ بهِ معَ كونِه تقولاً محضاً { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَـٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ } حالٌ من ضميرِ قولُوا أيْ ولكِنْ قولُوا أسلمنَا حالَ عدمِ مواطأةِ قلوبِكم لألسنتِكم، ومَا في لمَّا مِنْ مَعنْى التوقعِ مشعرٌ بأنَّ هؤلاءِ قَد آمنُوا فيمَا بعدُ { وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } بالإخلاصِ وتركِ النفاقِ { لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أَعْمَـٰلِكُمْ } لا ينُقصْكُم { شَيْئاً } من أجورِها مِنْ لاتَ يليتُ لَيْتاً إذَا نقصَ وقُرِىءَ لا يأْلتِكُم من الأَلْتِ وهيَ لغةُ غَطَفانَ أو شيئاً منَ النقصِ { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ } لِمَا فرطَ منَ المطيعينَ { رَّحِيمٌ } بالتفضيلِ عليهمْ.