الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } * { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَاطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } * { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ }

سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وتسمى القتال مدنية وقيل مكية، وآيها تسع أو ثمان وثلاثون

{ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي أعرضُوا عن الإسلامِ وسلوكِ طريقةِ، منْ صَدَّ صُدوداً، أو منعُوا النَّاسَ عن ذلكَ مِنْ صدَّهُ صَدَّاً كالمُطعمينَ يومَ بدرٍ وقيلَ: هُم اثنا عشرَ رجُلاً من أهلِ الشركِ كانُوا يصدُّونَ الناسَ عن الإسلامِ ويأمرونَهُم بالكفرِ، وقيلَ أهلُ الكتابِ الذينَ كفرُوا وصدُّوا مَنْ أرادَ منْهم ومن غيرِهم أنْ يدخلَ في الإسلامِ، وقيلَ: هو عامٌّ في كلِّ مَن كفرَ وصدَّ { أَضَلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ } أي أبطلَها وأحبطَها وجعلَها ضائعةً لا أثرَ لَها أصلاً، لكنْ لا بمعنى أنَّه أبطلَها وأحبطَها بعد أنْ لم تكُنْ كذلك بلْ بمَعْنى أنَّه حكَم ببطلانِها وضياعِها، فإنَّ ما كانُوا يعملونَ من أعمالِ البرِّ كصلةِ الأرحامِ وقِرَى الأضيافِ وفكِّ الأُسارَى وغيرِها من المكارمِ ليسَ لها أثرٌ منْ أصلِها لعدمِ مقارنتِها للإيمانِ أو أبطلَ ما عملوا من الكيدِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم والصدِّ عن سبـيلِه بنصرِ رسوله وإظهارِ دينِه على الدِّينِ كُلِّه، وهُو الأوفقُ لما سيأتِي من قولِه تعالى:فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ } [سورة محمد، الآية 8]. وقولُه تعالى: { فَإِذَا لَقِيتُمُ } [سورة محمد، الآية 4] الخ. { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } قيلَ: هم ناسٌ من قُريشٍ وقيلَ: من الأنصارِ وقيلَ: هُم مُؤمنو أهلِ الكتابِ وقيلَ: عامٌّ للكُلِّ { وَءامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ } خُصَّ بالذكرِ الإيمانُ بذلكَ مع اندراجِه فيما قبلَهُ تنويهاً بشأنِه وتنبـيهاً على سُموِّ مكانِه منْ بـينِ سائرِ ما يجبُ الإيمانُ بهِ وأنه الأصلُ في الكُلِّ، ولذلكَ أُكِّدَ بقولِه تعالى { وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ } بطريقِ حصرِ الحقِّيةِ فيهِ، وقيلَ: حقِّيتُه بكونِه ناسخاً غيرَ منسوخٍ، فالحقُّ على هذا مقابلُ الزائلِ وعلى الأولِ مقابلُ الباطلِ، وأيَّاً ما كانَ فقولُه تعالى من ربِّهم حالٌ من ضميرِ الحقِّ. وقُرِىءَ نزَّلَ على البناءِ للفاعلِ، وأَنزلَ على البناءينِ، ونَزَلَ بالتخفيفِ { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَـٰتِهِمْ } أي سترَهَا بالإيمانِ والعملِ الصالحِ. { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي حالَهم في الدِّينِ والدُّنيا بالتأيـيدِ والتوفيقِ.

{ ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما مرَّ من إضلالِ الأعمالِ وتكفيرِ السيئاتِ وإصلاحِ البالِ، وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى: { بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَـٰطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ } أيْ ذلكَ كائنٌ بسببِ أنَّ الأولينَ اتَّبعُوا الشيطانَ كما قالَهُ مجاهدٌ ففعلُوا ما فعلُوا منَ الكفرِ والصدِّ، فبـيانُ سببـيةِ اتباعِه للإضلالِ المذكورِ متضمنٌ لبـيانِ سببـيتِهما له لكونِه أصلاً مُستتبعاً لهما قطعاً وبسببِ أنَّ الآخرينَ اتبعُوا الحقَّ الذي لا محيدَ عنه كائناً من ربِّهم ففعلُوا ما فعلُوا من الإيمانِ به وبكتابِه ومن الأعمالِ الصالحة فبـيانُ سببـيةِ اتِّباعِه لما ذُكرَ من التكفيرِ والإصلاحِ بعدَ الإشعارِ بسببـيةِ الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ له متضمنٌ لبـيانِ سببـيتِهما له لكونِه مبدأً ومنشأً لهما حتماً فلا تدافُعَ بـينَ الإشعارِ والتصريحِ في شيءٍ من الموضعينِ ويجوزُ أن يُحملَ الباطلُ على ما يُقابلُ الحقَّ وهو الزائلُ الذاهبُ الذي لا أصلَ له أصلاً فالتَّصريحُ بسببـيةِ اتباعهِ لإضلالِ أعمالِهم وإبطالِها لبـيانِ أنَّ إبطالَها لبطلانِ مبناها وزوالِه، وأما حملُه على ما لا يُنتفعُ به فليسَ كَما ينبغِي لِما أنَّ الكفرَ والصدَّ أفحشُ منه فلا وجَه للتصريحِ بسببـيتِه لما ذُكر من إضلالِ أعمالِهم بطريقِ القصرِ بعدَ الإشعارِ بسببـيتِهما له فتدبر.

السابقالتالي
2 3