الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ } * { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ } * { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ }

{ أُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إلى المخاطبـينَ بطريقِ الالتفاتِ إيذاناً بأنَّ ذكرَ هَنَاتِهم أوجبَ إسقاطَهُم عن رُتبةِ الخطابِ وحكايةَ أحوالِهم الفظيعةِ لغيرِهم، وهُو مبتدأٌ خبُرُه { ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ } أيْ أبعدهُم من رحمتِه { فَأَصَمَّهُمْ } عن استماعِ الحقِّ لتصامِّهم عنْهُ بسوءِ اختيارِهم. { وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ } لتعامِيهم عمَّا يشاهدونَهُ من الآياتِ المنصوبةِ في الأنفسِ والآفاق.

{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ } أيْ أَلاَ يلاحظونَهُ ولاَ يتصفحونَهُ وما فيهِ من المواعظِ والزواجرِ حتَّى لا يقعُوا فيَما وقعُوا فيهِ من الموبقاتِ { أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } فلا يكادُ يصلُ إليها ذكرٌ أصلاً. وأم منقطعةٌ وما فيها من معنى بلْ للانتقالِ من التوبـيخِ بعدمِ التدبرِ إلى التوبـيخِ بكونِ قلوبهم مقفلةً لا تقبلُ التدبرَ والتفكرَ. والهمزةُ للتقريرِ، وتنكيرُ القلوبِ إمَّا لتهويلِ حالِها وتفظيعِ شأنِها بإبهامِ أمرِها في القساوةِ والجهالةِ كأنَّه قيلَ على قلوبٍ منكَرةٍ لا يعرفُ حالُها ولا يُقادرُ قدرُها في القساوةِ وإما لأنَّ المرادَ بها قلوبُ بعضٍ منْهم وهم المنافقونَ. وإضافةُ الأقفالِ إليها للدلالةِ على أنَّها أقفالٌ مخصوصةٌ بها مناسبةٌ لها غيرُ مجانسةٍ لسائرِ الأقفالِ المعهودةِ. وقُرِىءَ أقفالُها وإِقفالُها على المصدر.

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَـٰرِهِمْ } أي رجعُوا إلى ما كانُوا عليهِ من الكفرِ وهم المنافقونَ الذين وُصفوا فيما سلفَ بمرضِ القلوبِ وغيرهِ من قبائحِ الأفعالِ والأحوالِ فإنَّهم قد كفرُوا به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ { مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى } بالدلائلِ الظاهرةِ والمعجزاتِ القاهرةِ، وقيل هم اليهودُ وقيل أهلُ الكتابـينِ جميعاً كفرُوا به عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ بعدما وجدُوا نعتَهُ في كتابِهم وعرفُوا أنه المبعوثُ بذلكَ. وقولُه تعالى: { ٱلشَّيْطَـٰنُ سَوَّلَ لَهُمْ } جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، وقعتْ خبراً لإنَّ أي سهَّلَ لهم ركوبَ العظائمِ من السَّولِ وهو الاسترخاءِ، وقيلَ من السُّوْلِ المخففِ من السُّؤلِ لاستمرارِ القلبِ فمعنى سوَّلَ له أمراً حينئذٍ أوقعه في أمنيته فإن السُّؤل الأمنية. وقرىء سُوِّل مبنياً للمفعولِ على حذفِ المضافِ أن كيدَ الشيطانِ. { وَأَمْلَىٰ لَهُمْ } ومَدَّ لهم في الأمانِيِّ والآمالِ، وقيلَ أمهلهُم الله تعالى ولم يُعاجلْهم بالعقوبةِ. وقُرِىءَ وأُمْلِي لَهُم على صيغةِ المتكلمِ فالمعنى أي الشيطانُ يُغويهم وأنا أُنْظِرُهم فالواوُ للحالِ أو للاستئنافِ. وقُرِىءَ أُمْلِىَ لهُم على البناءِ للمفعولِ أي أُمْهِلُوا ومُدَّ في عمرِهم.

{ ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من ارتدادِهم لا إلى الإملاءِ كما نُقلَ عن الواحديِّ ولا إلى التسويلِ كما قيل لأنَّ شيئاً منهما ليس مُسبباً عن القولِ الآتي وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى: { بِأَنَّهُمْ } أي بسببِ أنَّهم { قَالُواْ } يعني المنافقينَ المذكورينَ لا اليهودَ الكافرينَ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ما وجدُوا نعتَهُ في التوارةِ كما قيل فإن كفرَهم به ليسَ بسببِ هذا القولِ ولو فُرض صدورُه عنهم سواءٌ كان المقولُ لهم المنافقينَ أو المشركينَ على رأي القائلِ، بل من حينِ بعثتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ { لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ } أي لليهودِ الكارهينَ لنزولِ القرآنِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مع علمِهم بأنَّه من عندِ الله تعالى حسداً وطمعاً في نزولِه عليهم لا للمشركينَ كما قيلَ فإنَّ قولَه تعالى: { سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ ٱلأَمْرِ } عبارةٌ قطعاً عما حُكِيَ عنُهم بقولِه تعالى:

السابقالتالي
2