الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَاءَهُمْ } * { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ }

{ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ } تقريرٌ لتباينِ حَالَيْ فَريَقيْ المؤمنينَ والكافرينَ وكونِ الأولينَ في أعلى علّيـينَ والآخرينَ في أسفلِ سافلينَ وبـيانٌ لعلةِ ما لكلَ منهُمَا من الحالِ. والهمزةُ للإنكارِ، والفاءُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ، وقد قُرِىءَ بدونها. ومَنْ عبارةٌ عن المؤمنينَ المتمسكينَ بأدلةِ الدِّينِ، وجعلُها عبارةً عن النبـيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أو عنْهُ وعنِ المؤمنينَ لا يساعدُه النظمُ الكريمُ على أنَّ الموازنةَ بـينه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبـينَهم مما يأباهُ منصبُه الجليلُ. والتقديرُ أليسَ الأمرُ كما ذُكِرَ فمنْ كانَ مستقراً على حجةٍ ظاهرةٍ وبرهانٍ نيّرٍ من مالكِ أمرِه ومربّـيهِ وهو القرآنُ الكريمُ وسائرُ المعجزاتِ والحججِ العقليةِ. { كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ } من الشركِ وسائرِ المعاصيِ مع كونِه في نفسِه أقبحَ القبائحِ { وَٱتَّبِعُـواْ } بسببِ ذلكَ التزيـينِ { أَهْوَاءهُمْ } الزائغةَ وانهمكُوا في فنونِ الضلالاتِ من غيرِ أنْ يكونَ لهم شبهةٌ توهمُ صحةَ ما هُم عليهِ فضلاً عن حجةٍ تدلُّ عليهِ. وجمعُ الضميرينِ الأخيرينِ باعتبارِ مَعْنى مَنْ، كما أنَّ إفرادَ الأولَينِ باعتبارِ لفظِها.

{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } استئنافٌ مَسُوقٌ لشرحِ مَحَاسنِ الجنَّةِ الموعودةِ آنِفاً للمؤمنينَ، وبـيانِ كيفيةِ أنهارِها التي أُشيرَ إلى جريانِها من تحتِها، وعُبِّرَ عنهُم بالمتقينَ إيذاناً بأنَّ الإيمانَ والعملَ الصالَح من بابِ التقوى الذي هُو عبارةٌ عن فعلِ الواجباتِ بأسرِها وتركِ السيئاتِ عن آخرِها، ومَثَلُها: وصفُها العجيبُ الشأنِ. وهُو مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ فقدَّرهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيلٍ: مثلُ الجنةِ ما تسمعونَ. وقولُه تعالى: { فِيهَا أَنْهَارٌ } إلخ مفسرٌ لَهُ وقدَّرهُ سيبويهِ فيما يُتلَى عليكُم مَثَلُ الجنةِ، والأولُ هو الأنسبُ لصدرِ النظمِ الكريمِ، وقيلَ المَثَلُ زائدةٌ كزيادةِ الاسمِ في قولِ مَنْ قالَ:
إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عليكما    [ومَنْ يَبْكِ حولاً كاملاً فقدِ اعتذرْ]
والجنةُ مبتدأٌ خبرُهُ فيها أنهارٌ إلخ. { مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ } أيْ غيرِ متغيرِ الطعمِ والرَّائحةِ. وقُرِىءَ غيرِ أَسِنٍ. { وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } بأنْ صارَ قارِصاً وَلاَ خَازِراً كألبانِ الدُّنيا. { وَأَنْهَـٰرٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لّلشَّـٰرِبِينَ } لذيذةٍ ليسَ فيها كراهةُ طعمٍ وريحٍ ولا غائلةُ سُكرٍ ولا خُمارٌ، وإنما هيَ تلذذٌ محضٌ. ولذةٍ إمَّا تأنيثُ لذَ بمعنى لذيذٍ، أو مصدرٌ نُعتَ به مبالغةً. وقُرِىءَ لذةٌ بالرفعِ على أنَّها صفةُ أنهارٌ، وبالنصبِ على العلَّةِ أي لأجلِ لذةِ الشاربـينَ { وَأَنْهَـٰرٌ مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } لا يُخالطُه الشمعُ وفضلاتُ النحلِ وغيرُها. وفي هذا تمثيلٌ لما يَجْري مَجرى الأشربةِ في الجنةِ بأنواعِ ما يُستطابُ منها ويُستلذُّ في الدُّنيا بالتخليةِ عمَّا يُنغصها ويُنقصها والتحليةِ بما يُوجبُ غزارتُها ودوامَها. { وَلَهُمْ فِيهَا } مع ما ذُكَر من فنونِ الأنهارِ { مِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ } أيْ صنفٌ من كلِّ الثمراتِ { وَمَغْفِرَةٌ } أي ولهم مغفرةٌ عظيمةٌ لا يُقادَرُ قَدرُها.

السابقالتالي
2