الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } * { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ } * { إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } * { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ }

{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأَرْضِ } أي أقَعدُوا في أماكنِهم فلم يسيرُوا فيها { فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } من الأممِ المكذبةِ فإنَّ آثارَ ديارِهم تنبىءُ عن أخبارِهم. وقولُه تعالى: { دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيلَ كيفَ كان عاقبتُهم فقيلَ استأصلَ الله تعالىَ عليهم ما اختصَّ بهم من أنفسِهم وأهليِهم وأموالِهم، يقالُ دمَّره أهلكَه ودمَّر عليهِ أهلكَ عليهِ ما يختصُّ بهِ. { وَلِلْكَـٰفِرِينَ } أي ولهؤلاءِ الكافرينَ السائرينَ بسيرتِهم { أَمْثَـٰلُهَا } أمثالُ عواقبِهم أو عقوباتِهم لكنْ لا على أنَّ لهؤلاءِ أمثالَ ما لأولئكَ وأضعافَهُ، بلْ مثلَه، وإنما جُمعَ باعتبارِ مماثلتِه لعواقبَ متعددةٍ حسبَ تعددِ الأممِ المُعذبةِ. وقيلَ يجوزُ أن يكونَ عذابُهم أشدَّ من عذابِ الأولينَ وقد قُتلوا وأُسروا بأيدِي من كانُوا يستخفّونهم ويستضعفونهم والقتلُ بـيد المثلِ أشدُّ ألماً من الهلاكِ بسببٍ عامٍ، وقيلَ المرادُ بالكافرينَ المتقدمونَ بطريقِ وضعِ الظاهرِ موضعَ الضميرِ، كأنَّه قيلَ دمَّر الله عليهم في الدُّنيا ولهُم في الآخرةِ أمثالُها.

{ ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ثبوتِ أمثالِ عقوبةِ الأممِ السَّالفةِ لهؤلاءِ { بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } أي ناصرُهم على أعدائِهم. وقُرِىءَ وليُّ الذينَ { وَأَنَّ ٱلْكَـٰفِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ } فيدفعُ عنُهم ما حلَّ بهم من العقوبةِ والعذابِ ولا يُخالفُ هَذا قولَه تعالى:ثُمَّ رُدُّواْ إِلَىٰ ٱللَّهِ مَوْلَـٰهُمُ ٱلْحَقّ } [سورة الأنعام، الآية 62] فإنَّ المَوْلَى هُناكَ بمعنى المالِك.

إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جَنَـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } بـيانٌ لحكمِ ولايتِه تعالى لَهُم وثمرتِها الأُخرويةِ. { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ } أيْ ينتفعونَ في الدُّنيا بمتاعِها { وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَـٰمُ } غافلينَ عنْ عواقِبهم { وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } أي منزلُ ثُواءٍ وإقامةٍ. والجملةُ إمَّا حالٌ مقدرةٌ منْ واوِ يأكُلونَ، أو استئنافٌ { وَكَأَيّن } كلمةٌ مركبةٌ من الكافِ، وأَيْ بمَعنى كَمِ الخبريةِ ومحلُّها الرفعُ بالابتداءِ. وقوله تعالى: { مِن قَرْيَةٍ } تميـيزٌ لها. وقولُه تعالى: { هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ } صفةٌ لقريةٍ كما أنَّ قولَه تعالى: { ٱلَّتِى أَخْرَجَتْكَ } صفةٌ لقريتكَ، وقد حُذفَ عنهُمَا المضافُ وأُجريَ أحكامُه عليهمَا كما يُفصحُ عنه الخبرُ الذي هو قولُه تعالى: { أَهْلَكْنَـٰهُمْ } أي وكم منْ أهلِ قريةٍ هُم أشدُّ قوةً من أهلِ قريتكَ الذين كانُوا سبباً لخروجِكَ من بـينِهم. ووصفُ القريةِ الأولى بشدةِ القُوَّةِ للإيذانِ بأولويةِ الثانيةِ منها بالإهلاكِ لضعفِ قوَّتِها كما أنَّ وصفَ الثانيةِ بإخراجهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للإيذانِ بأولويتِها به لقوةِ جنايتِها. وعلى طريقتِه قولُ النابغةِ:
كُلَيبٌ لعَمْرِي كانَ أكثَر ناصرا   وَأيسَر جُرماً منكَ ضُرِّجَ بالدَّمِ
وقولُه تعالى: { فَلاَ نَـٰصِرَ لَهُمْ } بـيانٌ لعدمِ خلاصِهم من العذابِ بواسطةِ الأعوانِ والأنصارِ إثرَ بـيانِ عدمِ خلاصِهم منْهُ بأنفسِهم. والفاءُ لترتيبِ ذكرِ ما بالغيرِ على ذكرِ ما بالذاتِ وهو حكايةُ حالٍ ماضيةٍ.