الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } * { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }

{ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } إضرابٌ وانتقالٌ من حكايةِ شناعتِهم السابقةِ إلى حكايةِ ما هو أشنعُ منها. وما في أمْ من الهمزةِ للإنكارِ التوبـيخيِّ المتضمنِ للتعجيبِ أي بل أيقولونَ افترى القُرآنَ { قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ } على الفرضِ { فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } إذْ لا ريبَ في أنَّه تعالَى يُعاجلني حينئذٍ بالعقوبةِ فكيفَ أجترىءُ على أنْ أفتريَ عليهِ تعالى كذباً فأُعرّضَ نفسيَ للعقوبةِ التي لا مناصَ عنها { هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } أي تندفعونَ فيهِ من القدحِ في وَحي الله والطعنِ في آياتِه وتسميتِه سحراً تارةً وفريةً أُخرى { كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } حيثُ يشهدُ لي بالصدقِ والبلاغِ وعليكم بالكذبِ والجحودِ وهو وعيدٌ بجراءِ إفاضتِهم. وقولُه تعالى: { وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } وعدٌ بالغُفرانِ والرحمةِ لمن تابَ وآمنَ، وإشعارٌ بحلمِ الله تعالى عنْهم مع عظمِ جرائمِهم.

{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ ٱلرُّسُلِ } البدعُ بمعنى البديعِ كالخِلِّ بمعنى الخليلِ وهو ما لا مثلَ له. وقُرِىءَ بفتحِ الدالِ على أنه صفةٌ كقِيَمٍ وزِيَمٍ، أو جمعٌ مقدرٌ بمضافٍ أيْ ذَا بِدَعٍ، وقد جُوِّزَ ذلكَ في القراءةِ الأُولى أيضاً على أنه مصدرٌ. كانُوا يقترحونَ عليهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ آياتٍ عجيبةً ويسألونَهُ عن المُغيباتِ عِناداً ومُكابرةً فأُمَر عليهِ السَّلامُ بأنْ يقولَ لهم ما كنتُ بديعاً من الرسلِ قادراً على ما لم يقدرُوا عليهِ حَتَّى آتيَكُم بكلِّ ما تقترحونَهُ وأخبركم بكلِّ ما تسألونَ عنْهُ من الغيُوبِ فإنَّ مَنْ قبلي من الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ما كانُوا يأتونَ إلا بما آتاهُم الله تعالى من الآياتِ ولا يُخبرونَهم إلا بَما أُوحيَ إليهم { وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ } أيُ أيُّ شيءٍ يُصيبنَا فيما يُستقبلُ من الزمانِ من أفعالهِ تعالى وماذا يُقدَّرُ لنا من قضاياهُ. وعن الحسنِ رضيَ الله عنْهُ ما أَدري ما يصيرُ إليه أَمري وأمرُكم في الدُّنيا. وعن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا: ما يفعلُ بـي ولا بكُم في الآخرةِ وقال: هيَ منسوخةٌ بقولِه تعالى:لّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [سورة الفتح، الآية 2]، وقيل: يجوزُ أن يكونَ المنفيُّ هي الدرايةَ المفصَّلةَ، والأظهرُ الأوفقُ لما ذُكِرَ من سببِ النزولِ أنَّ مَا عبارةٌ عمَّا ليسَ علمُه منْ وظائفِ النبوةِ من الحوادثِ والواقعاتِ الدنيويةِ دونَ ما سيقعُ في الآخرةِ فإنَّ العلمَ بذلكَ من وظائفِ النبوةِ، وقد وردَ به الوحيُ الناطق بتفاصيلِ ما يُفعلُ بالجانبـينِ. هذا وقد رُويَ عن الكلبـيِّ أنَّ أصحابَ النبـيِّ صلى الله عليه وسلم قالُوا له عليه السَّلامُ وقد ضجِروا من أذيةِ المشركينَ حتَّى متى نكونُ على هَذا فقالَ: " ما أدري ما يُفعلُ بـي ولا بكُم أأُتْركُ بمكةَ أم أُومرُ بالخروجِ إلى أرضٍ ذاتِ نخيلٍ وشجرٍ قد رُفعتْ لي ورأيتُها " يعني في منامِه، وجُوِّزِ أنْ تكونَ ما موصولةً، والاستفهاميةُ أقضى لحقِّ مقامِ التبرؤِ عن الدرايةِ.

السابقالتالي
2