الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ } * { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }

وكذَا قولُه تعالى: { تُدَمّرُ } أي تهلكُ { كُلّ شَىْء } من نفوسهم وأموالهم { بِأَمْرِ رَبّهَا } وقرىء يدمر كلَّ شيءٍ من دمَّر دماراً إذا هلكَ فالعائدُ إلى الموصوفِ محذوفٌ أو هو الهاءُ في ربِّها ويجوزُ أن يكونَ استئنافاً وارداً لبـيانِ أنَّ لكلَّ ممكنٍ فناءً مقضياً منوطاً بأمرِ بارئهِ، وتكونُ الهاءُ لكلِّ شيءٍ لكونِه بمعنى الأشياءِ وفي ذكرِ الأمرِ والربِّ والإضافةِ إلى الريحِ من الدلالة على عظمةِ شأنِه عزَّ وجلَّ ما لا يَخْفى. والفاءُ في قولِه تعالى: { فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَـٰكِنُهُمْ } فصيحةٌ أي فجاءتْهُم الريحُ فدمرتْهُم فأصبحُوا بحيثُ لا يُرى إلا مساكنُهم. وقُرِىءَ تَرَى بالتاءِ ونصبِ مساكنُهم. خطاباً لكلِّ أحدٍ يتأتَّى منه الرؤيةُ تنبـيهاً على أنَّ حالَهُم بحيثُ لو حضرَ كلُّ أحدٍ بلادَهُم لا يَرَى فيها إلا مساكنَهُم. { كَذٰلِكَ } أي مثلَ ذلكَ الجزاء الفظيعِ. { نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ } وقد مرَّ تفصيلُ القصةِ في سورةِ الأعرافِ. وقد رُويَ أنَّ الريحَ كانتْ تحملُ الفُسطاطَ والظَّعينةَ فترفعُها في الجوِّ حتى تُرى كأنَّها جرادةٌ. قيلَ: أولُ من أبصرَ العذابَ امرأةٌ منُهم قالتْ رأيتُ ريحاً فيها كشهبِ النَّارِ، ورُويَ أنَّ أولَ ما عرفُوا به أنَّه عذابٌ ما رأوا ما كانَ في الصحراءِ من رحالِهم ومواشيهم تطيرُ بها الريحُ بـينَ السماءِ والأرضِ فدخلُوا بـيوتَهم وغلَّقوا أبوابَهم فقلعتِ الريحُ الأبوابَ وصرعَتْهم فأمالَ الله تعالى الأحقافَ فكانُوا تحتَها سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيامٍ لهم أنينٌ ثم كشفتِ الريحُ عنهُم فاحتملتهم فطرحتْهُم في البحرِ. ورُوِيَ أنَّ هُوداً عليهِ السَّلامُ لمَّا أحسَّ بالريحِ خطَّ على نفسِه وعلى المؤمنينَ حظاً إلى جنبِ عينٍ تنبَعُ. وعن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا اعتزلَ هودٌ ومن معَهُ في حظيرةِ ما يصيبُهم من الريحِ إلا ما يلينُ على الجُلودِ وتلذه الأنفسُ وإنَّها لتمرُّ من عادٍ بالظعنِ بـينَ السماءِ والأرضِ وتدمغُهم بالحجارةِ.

{ وَلَقَدْ مَكَّنَـٰهُمْ } أي قررنَا عاداً أو أقدرنَاهُم، وما في قولِه تعالى: { فِيمَا إِن مَّكَّنَّـٰكُمْ فِيهِ } موصولةٌ أو موصوفةٌ، وأنْ نافيةٌ، أيْ في الذِي أو في شيءٍ ما مكنَّاكُم فيهِ من السَّعةِ والبسطةِ وطولِ الأعمار وسائرِ مبادِيِ التصرفاتِ كَما في قولِه تعالى:أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ } [سورة الأنعام، الآية 6] وممَّا يُحسِّنُ موقعَ إنْ هَهُنا التَّفَصِّي عن تكررِ لفظةِ مَا، وهُو الدَّاعِي إلى قلبِ ألِفها هاءً في مَهْمَا، وجعلُها شرطيةً أو زائدةً مِمَّا لاَ يليقُ بالمقامِ. { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَـٰراً وَأَفْئِدَةً } ليستعملُوهَا فيمَا خُلقتْ لهُ ويعرفُوا بكلَ منَها ما نِيطتْ بهِ معرفتُه من فنونِ النعمِ ويستدلُّوا بها على شؤونِ منعمِها عزَّ وجلَّ ويداومُوا على شُكرِه. { فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ } حيثُ لم يستعملُوه في استماعِ الوَحي ومواعظِ الرسلِ.

السابقالتالي
2