الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } * { تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِ يُؤْمِنُونَ } * { وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } * { يَسْمَعُ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }

{ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } بالجرِّ على إضمارِ الجارِّ المذكورِ في الآيتينِ قبلَهُ. وقد قُرِىءَ بذكرِه. والمرادُ باختلافِهما إمَّا تعاقُبهما أو تفاوتُهما طولاً وقِصَراً. { وَمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاء } عطفٌ على اختلافِ { مِن رّزْقِ } أي من مطرٍ، وهو سببُ للرزقِ عُبرَ عنهُ بذلكَ تنبـيهاً على كونِه آيةً من جِهتَيْ القُدرةِ والرحمةِ. { فَأحْيَا بِهِ ٱلأَرْضُ } بأنْ أخرجَ منها أصنافَ الزروعِ والثمراتِ والنباتِ. { بَعْدَ مَوْتِهَا } وعرائها عن آثارِ الحياةِ وانتقاءِ قوةِ التنميةِ عنها وخُلوِّ أشجارِها عن الثمارِ. { وَتَصْرِيفِ ٱلرّيَاحِ } من جهةٍ إلى أُخرى، ومن حالٍ إلى حالٍ. وقُرىءَ بتوحيدِ الريحِ. وتأخيرُه عن إنزالِ المطرِ مع تقدمِه عليهِ في الوجودِ، إمَّا للإيذانِ بأنه آيةٌ مستقلةٌ حيثُ لو رُوعيَ الترتيبُ الوجوديُّ لربما تُوهم أنَّ مجموعَ تصريفِ الرياحِ وإنزالِ المطرِ آيةٌ واحدةٌ، وإمَّا لأنَّ كونَ التصريفِ آيةً ليسَ لمجردِ كونِه مبدأً لإنشاءِ المطرِ بل لهُ ولسائرِ المنافعِ التي من جُملتها سوقُ السفنِ في البحارِ. { ءَايَاتٌ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } بالرفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُهُ ما تقدمَ من الجارِّ والمجرورِ. والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلَها. وقُرِىءَ بالنصبِ على الاختصاصِ، وقيلَ: على أنَّها اسمُ أنَّ والمجرورُ المتقدمُ خبرُها بطريقِ العطفِ على معمولَيْ عاملينِ مختلفينِ هُمَا أنَّ وفي أقيمتِ الواوُ مُقامَهُما فعملتِ الجرَّ في اختلافِ والنصبَ في آياتٍ. وتنكيرُ آياتٍ في المواقعِ الثلاثةِ للتفخيمِ كماً وكيفاً واختلافُ الفواصلِ لاختلافِ مراتبِ الآياتِ في الدقةِ والجلاءِ.

{ تِلْكَ آيَـٰتُ ٱللَّهِ } مبتدأٌ وخبرٌ. وقولُه تعالَى: { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } حالٌ عاملُها معنى الإشارةِ وقيلَ: هو الخبرُ وآياتُ الله بدلٌ أو عطفُ بـيانٍ { بِٱلْحَقّ } حالٌ من فاعلِ نتلُو ومن مفعولِه أي نتلُوها مُحِقينَ أو ملتبسةً بالحقِّ { فَبِأَىّ حَدِيثٍ } من الأحاديثِ { بَعْدَ ٱللَّهِ وَءايَـٰتِهِ } أي بعد آياتِ الله، وتقديمُ الاسمِ الجليلِ لتعظيمِها، كَما في قولِهم: أعجبنِي زيدٌ وكرمُه، أو بعدَ حديثِ الله الذي هُو القرآنُ حسبما نطقَ به قولُه تعالى:ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } [سورة الزمر، الآية 23] وهو المرادُ بآياتِه أيضاً ومناطُ العطفِ التغايرُ العُنوانِي. { يُؤْمِنُونَ } بصيغةِ الغَيبةِ وقُرِىءَ بالتاءِ. { وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ } كذابٍ { أَثِيمٍ } كثيرِ الآثامِ. { يَسْمَعُ ءايَـٰتِ ٱللَّهِ } صفةٌ أخرى لأفَّاكٍ وقيلَ: حالٌ من الضميرِ في أثيمٍ. { تُتْلَىٰ عَلَيْهِ } حالٌ من آياتِ الله ولا مساغَ لجعلِه مفعولاً ثانياً ليسمعُ، لأنَّ شرطَهُ أنْ يكونَ ما بعَدهُ ممَّا لا يُسمعُ كقولِكَ سمعتُ زيداً يقرأُ. { ثُمَّ يُصِرُّ } أي يقيمُ على كُفره. وأصلُه من إصرارِ الحمارِ على العانة. { مُسْتَكْبِراً } عن الإيمانِ بما سمعهُ من آياتِ الله تعالى والإذعانِ لما تنطقُ بهِ من الحقِّ مُزدرياً لها مُعجَباً بما عندَهُ من الأباطيلِ. وقيلَ: نزلتْ في النَّضرِ بنِ الحارثِ وكان يشترِي من أحاديثِ الأعاجمِ ويشغلُ بها النَّاسَ عن استماعِ القُرآنِ، لكنَّها وردتْ بعبارةٍ عامةٍ ناعية عليهِ وعلى كلِّ من يسيرُ سيرتَهُ ما هم فيه من الشرِّ والفسادِ. وكلمةُ ثمَّ لاستبعادِ الإصرارِ والاستكبارِ بعد سماعِ الآياتِ التي حقُّها أنْ تُذعنَ لها القلوبُ وتخضعَ لها الرقابُ كَما في قولِ مَنْ قالَ
يَرَى غَمَراتِ الموتِ ثمَّ يزورُهَا   
{ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } أي كأنَّه لم يسمعْهَا فخففَ وحُذفَ ضميرَ الشأنِ. والجملةُ حالٌ من يُصرُّ أي يصرُّ شبـيهاً بغيرِ السامعِ. { فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } على إصرارِه واستكبارِه.