الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } * { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } * { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }

{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } تعجيبٌ من حالِ مَنْ تركَ متابعةَ الهُدى إلى مُطاوعةِ الهَوَى فكأنَّه عبدُه أيْ أنظرتَ فرأيتَهُ فإنَّ ذلكَ مِمَّا يُقْضَى منه العجبُ. وقُرِىءَ آلهةً هواهُ لأنَّ أحدَهُم كانَ يستحسنُ حجراً فيعبدُه فإذا رَأى أحسنَ منه رفضَهُ إليهِ فكأنَّه اتخذَ آلهةً شتَّى { وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ } وخذلَه { عَلَىٰ عِلْمٍ } أي عالماً بضلالِه وتبديلِه لفطرةِ الله تعالى التي فطرَ النَّاسَ عليها. { وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } بحيثُ لا يتأثرُ بالمواعظِ ولا يتفكرُ في الآياتِ والنذرِ. { وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً } مانعةً عن الاستبصارِ والاعتبارِ. وقُرِىءَ بفتحِ الغينِ وضمِّها، وقُرِىءَ غشوةً { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ } أي من بعدِ إضلالِه تعالى إيَّاهُ بموجبِ تعاميهِ عنِ الهُدى وتماديهِ في الغيِّ { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي أَلاَ تلاحظونَ فلا تذكَّرونَ وقُرىءَ تتذكرونَ على الأصلِ.

{ وَقَالُواْ } بـيانٌ لأحكامِ ضلالِهم المحكيِّ أي قالُوا من غايةِ غيِّهم وضلالِهم { مَا هِىَ } أيْ ما الحَيَاةُ { إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا } التي نحنُ فيَها { نَمُوتُ وَنَحْيَا } أي يصيبنا الموتُ والحياةُ فيها وليسَ وراءَ ذلكَ حياةٌ وقيلَ: نكونُ نطفاً وما قبلَها وما بعدَها ونحيا بعدَ ذلكَ، أو نموتُ بأنفسِنا ونحيَا ببقاءِ أولادِنا أو يموتُ بعضُنا ويحيا بعضُنا وقد جُوِّزَ أنْ يريدُوا به التناسخَ فإنَّه عقيدةُ أكثرِ عبدةِ الأوثانِ. وقُرِىءَ نَحْيَا { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } إلا مرورُ الزمانِ وهُو في الأصلِ مدةُ بقاءِ العالمِ من دَهَرهُ أي غلَبُه. وقِرِىءَ إلا دهرٌ يمرُّ وكانُوا يزعمونَ أن المؤثرَ في هلاكِ الأنفسِ هُو مرورُ الأيامِ والليالِي وينكرونَ ملكَ الموتِ وقبضَه للأرواحِ بأمرِ الله تعالى ويضيفونَ الحوادثَ إلى الدهرِ والزمانِ. ومنْهُ قولُه صلى الله عليه وسلم: " لا تسبُّوا الدهرَ فإنَّ الله هو الدهرُ " أي فإنَّ الله هُو الآتِي بالحوادثِ لا الدهرُ. { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ } أي بما ذُكِرَ من اقتصارِ الحياةِ على ما في الدُّنيا واستنادِ الحياةِ والموتِ إلى الدهرِ { مِنْ عِلْمٍ } مَا مستندٍ إلى عقلٍ أو نقلٍ { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } ما هُم إلا قومٌ قُصارى أمرِهم الظنُّ والتقليدُ من غيرِ أنْ يكونَ لهم شيءٌ يصحُّ أنْ يتمسكَ به في الجملةِ، هذا معتقدُهم الفاسدُ في أنفسِهم { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُنَا } النَّاطقةُ بالحقِّ الذي من جُمْلَته البعثُ { بَيّنَـٰتٍ } واضحاتِ الدلالةِ على ما نطقت بهِ أو مبـيناتٍ له { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ } بالنصبِ على أنَّه خبرُ كانَ أيْ مَا كانَ متمسكاً لهم شيءٌ من الأشياءِ. { إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِئَابآئِنَا إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } في أنَّا نبعثُ بعدَ الموتِ أيْ إلاَّ هذا القولُ الباطلُ الذي يستحيلُ أنْ يكونَ من قبـيلِ الحُجَّةِ، وتسميتُه حجةً إمَّا لسوقِهم إيَّاهُ مساقَ الحُجَّةِ على سبـيلِ التهكمِ بهم أو لأنَّه من قبـيلِ:
[وخيلٌ قد دَلَفْتُ لها بخيْلٍ]   تحيةُ بـينِهم ضربٌ وجيعُ
وقُرىءَ برفعِ حجَّتَهم على أنها اسمُ كانَ فالمَعْنى ما كانَ حجَّتُهم شيئاً من الأشياءِ إلا هَذا القولَ الباطلَ.