الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } * { يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ } * { أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } * { ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ }

الفاءُ في قولِه تعالى { فَٱرْتَقِبْ } لترتيبِ الارتقابِ أو الأمرِ به على ما قبلَها فإنَّ كونَهُم في شكَ مما يُوجِبُ ذلكَ حَتْماً أي فانتظرُ لَهُم { يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } أي يومَ شدَّةٍ ومَجَاعةٍ فإنَّ الجائعَ يَرَى بـينَهُ وبـينَ السماءِ كهيئةِ الدُّخانِ إما لضعفِ بصرهِ أو لأنَّ في عامِ القحطِ يُظلمُ الهواءُ لقلةِ الأمطارِ وكثرةِ الغُبارِ أو لأنَّ العربَ تُسمِّي الشرَّ الغالبَ دُخاناً وذلكَ أنَّ قريشاً لمَّا استعصتْ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم دعَا عليهم فقالَ: " اللهَّم اشدُدْ وطأتَكَ على مضرَ واجعلْها عليهم سنينَ كسِنِي يوسفَ " فأخذتْهُم سَنةٌ حتى أكلُوا الجيفَ والعظامَ والعِلْهِزَ وكانَ الرجلُ يَرَى بـينَ السماءِ والأرضِ الدُّخانَ وكان يحدثُ الرجلَ ويسمعُ كلامَهُ ولا يراهُ من الدخانِ وذلكَ قولُه تعالى:

{ يَغْشَى ٱلنَّاسَ } أي يحيطُ بهم { هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي قائلينَ ذلكَ، فمشَى إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أبُو سفيانَ ونَفَرٌ معَهُ وناشدُوه الله تعالَى والرحمَ وواعدُوه إنْ دعَا لهم وكشفَ عنُهم أنْ يُؤمنوا، وذلكَ قولُه تعالى { رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ } وهَذا قولُ ابنِ عبَّاسِ وابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنُهم وبه أخذَ مجاهدٌ ومقاتلٌ وهو اختيارُ الفَرَّاءِ والزَّجَّاجِ، وقيلَ: هو دُخانٌ يأتِي من السماءِ قبلَ يومِ القيامةِ، فيدخلُ في أسماعِ الكفرةِ حتَّى يكونَ رأسُ الواحدِ كالرأسِ الحنيذِ ويعترِي المؤمنَ منه كهيئةِ الزكامِ وتكونُ الأرضُ كُّلها كبـيتٍ أُوقدَ فيه ليسَ فيه خصاصٌ. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: " أولُ الآياتِ الدُّخانُ ونزولُ عيسى ابنِ مريمَ ونارٌ تخرجُ من قعرِ عدنِ أبْـينَ تسوقُ النَّاسَ إلى المحشرِ، قالَ حذيفةُ: يا رسولَ الله وما الدُّخانُ؟ فتَلا الآيةَ، وقالَ يملأُ ما بـينَ المشرقِ والمغربِ يمكثُ أربعينَ يوماً وليلةً أمَّا المؤمنُ فيصيبُه كهيئةِ الزكمةِ وأما الكافرُ فهو كالسكرانِ يخرجُ من مَنْخِريهِ وأذنيهِ ودبُرهِ " والأولُ هُو الذي يستدعيهِ مساقُ النظمِ الكريمِ قطعاً. فإنَّ قولَه تعالى: { أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذّكْرَىٰ } إلخ ردٌّ لكلامِهم واستدعائِهم الكشفَ وتكذيبٌ لهم في الوعدِ بالإيمانِ المنبىءِ عن التذكرِ والاتعاظِ بما اعتراهُم من الداهيةِ أي كيفَ يتذكرونَ أو مِنْ أين يتذكرون بذلك ويفُون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذابِ عنهم { وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } أيْ والحالُ أنَّهم شاهُدوا منْ دَوَاعي التذكرِ وموجباتِ الاتعاظِ ما هو أعظمُ منِهُ في إيجابِها حيثُ جاءَهُم رسولٌ عظيمٌ الشأنِ وبـين لهم مناهجَ الحقِّ بإظهار آياتٍ ظاهرةٍ ومعجزاتٍ قاهرةٍ تخِرُّ لها صُمُّ الجبال. { ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ } عن ذلك الرسول وهو هو ريثما شاهدوا منه ما شاهدوه من العظائمِ الموجبةِ للإقبال عليه ولم يقتنعوا بالتولِّي { وَقَالُواْ } في حقِّهِ { مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } أي قالوا تارة يعلمُه غلامٌ أعجميٌّ لبعض ثقيفٍ وأُخرى مجنونٌ، أو يقولُ بعضهم كذَا وآخرونَ كَذا فَهلْ يتوقعُ من قوم هذه صفاتُهم أنْ يتأثرُوا بالعظة والتذكير، وما مثلُهم إلا كمثلِ الكلبِ إذَا جاعَ ضَغَا وإذا شبعَ طَغَى.