الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } * { وَقَالُوۤاْ ءَأَ ٰلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }

{ وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً } أي ضربَهُ ابنُ الزِّبَعْرَى حينَ جادلَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في قولِه تعالى:إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [سورة الأنبياء، الآية 98] حيثُ قالَ أهذَا لنَا ولآلهتِنا أو لجميعِ الأممِ. فقالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: هو لكمُ ولآلهتِكم ولجميعِ الأممِ. فقالَ اللعينُ: خصمتُكَ وربِّ الكعبةِ، أليسَ النَّصارى يعبُدونَ المسيحَ واليهودَ عزيراً وبنوُ مُلَيحٍ الملائكةَ فإنْ كانَ هؤلاءِ في النَّارِ فقد رضينا أن نكونَ نحنُ وآلهتُنا معهُم. ففرِحَ به قومُه وضحِكُوا وارتفعتْ أصواتُهم. وذلكَ قولُه تعالى { إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ } أي منْ ذلكَ المثلِ { يَصِدُّونَ } أي يرتفعُ لهم جلبةٌ وضجيجٌ فرحاً وجذلاً. وقُرِىءَ يَصُدُّونَ أيْ من أجلِ ذلكَ المثلِ يُعرضُونَ عنِ الحقِّ أي يثبُتونَ على ما كانُوا عليهِ من الإعراضِ أو يزدادونَ فيهِ، وقيلَ: هو أيضاً من الصديدِ، وهما لغتانِ فيه نحوُ يَعْكُفُ ويَعْكِفُ وهو الأنسبُ بمَعْنى المفاجأةِ. { وَقَالُواْ ءأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } حكايةٌ لطرفٍ من المثلِ المضروبِ، قالُوه تمهيداً لما بَنَوا عليهِ من الباطلِ المُموَّهِ بَما يغترُّ به السُّفهاءُ، أي ظاهرٌ أنَّ عيسَى خيرٌ من آلهتِنا فحيثُ كانَ هُو في النَّارِ فلا بأسَ بكونِنا مع آلهتِنا فيَها. واعلمُ أنَّ ما نُقلَ عنهم من الفرحِ ورفعِ الأصواتِ لم يكُن لما قيلَ: من أنَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ سكتَ عندَ ذلكَ إلى أنْ نزلَ قولُه تعالى:إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } [سورة الأنبياء، الآية 121] الآيةَ. فإنَّ ذلكَ معَ إيهامِه لما يجبُ تنزيه ساحتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عنْهُ من شائبةِ الإفحامِ من أولِ الأمرِ خلافُ الواقعِ كيفَ لاَ وقد رُويَ أن قولَ ابنِ الزَّبعرَى: خصمتُكَ وربُّ الكعبةِ صدرَ عنْهُ من أولِ الأمرِ عند سماعِ الآيةِ الكريمةِ بلغةِ قومِك أما فهمتَ أنَّ مَا لَما لا يعقلُ. وإنَّما لم يخصَّ عليهِ السَّلامُ هذا الحكمَ بآلهتِهم حينَ سألَ الفاجرُ عن الخصوصِ والعمومِ عملاً بما ذُكرَ من اختصاصِ كلمةِ مَا بغيرِ العُقلاءِ لأنَّ إخراجَ بعضِ المعبودينَ عنْهُ عند المحاجَّةِ موهمٌ للرخصةِ في عبادتِه في الجملةِ فعمَّمَهُ عليه السَّلامُ للكلِّ لكنْ لا بطريقِ عبارةِ النصِّ بل بطريقِ الدلالة بجامعِ الاشتراكِ في المعبوديةِ من دونِ الله تعالى، ثمَّ بـينَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه بل هُم عبدُوا الشياطينَ التي أمرتْهُم بذلكَ أن الملائكةَ والمسيحَ بمعزلٍ من أنْ يكونُوا معبوديهم كما نطقَ به قولُه تعالى:سُبْحَـٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ } [سورة سبأ، الآية 41] الآيةَ وقد مرَّ تحقيقُ المقامِ عند قولِه تعالى:إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } [سورة الأنبياء، الآية 101] الآيةَ. بلْ إنَّما كانَ ما أظهرُوه من الأحوالِ المنكرةِ لمحضِ وقاحتِهم وتهالُكِهم على المكابرةِ والعنادِ كما ينطقُ به قولُه تعالى: { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ } أي ما ضَربُوا لكَ ذلكَ المثلَ إلا لأجلِ الجدالِ والخصامِ لا لطلبِ الحقِّ حتَّى يذعنُوا له عندَ ظهورِه ببـيانكَ.

السابقالتالي
2