الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ ٱلإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } * { أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِٱلْبَنِينَ } * { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } * { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ }

{ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً } متصلٌ بقولِه تعالى ولئِن سألتَهُم. الخ أيْ وقد جعلُوا له سبحانَهُ بألسنتِهم واعتقادِهم بعد ذكلَ الاعترافِ من عبادِه ولداً وإنَّما عبَّر عنهُ بالجُزءِ لمزيدِ استحالتهِ في حقِّ الواحدِ الحقِّ من جميعِ الجهاتِ. وقُرِىءَ جُزُؤا بضمَّتينِ. { إِنَّ ٱلإنسَـٰنَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } ظاهرُ الكُفرانِ مبالغٌ فيهِ ولذلكَ يقولونَ ما يقولونَ، سبحانَ الله عمَّا يصفونَ. { أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ } أَمْ منقطعةٌ وما فيها من مَعْنى بَلْ للانتقالِ من بـيانِ بطلانِ جَعْلِهم لهُ تعالى ولداً على الإطلاقِ إلى بـيانِ بُطلانِ جعلِهم ذلكَ الولدَ من أخسَّ صنفيهِ. والهمزةُ للإنكارِ والتوبـيخِ والتعجيبِ من شأنِهم. وقولُه تعالى { وَأَصْفَـٰكُم بِٱلْبَنِينَ } إما عطفٌ على اتخذَ داخلٌ في حُكْمِ الإنكارِ والتعجيبِ أو حالٌ من فاعلِه بإضمارِ قَدْ أو بدونِه على الخلافِ المشهورِ. والالتفاتُ إلى خطابِهم لتأكيدِ الإلزامِ وتشديدِ التوبـيخِ أي بلْ اتخذَ من خلقِه أخسَّ الصنفينِ واختارَ لكم أفضلَهُما: على مَعْنى هَبُوا أنكم اجترأتُم على إضافةِ اتخاذِ جنسِ الولدِ إليه سُبحانَهُ مع ظهورِ استحالتِه وامتناعِه أما كانَ لكم شيءٌ من العقلِ ونُبذٌ من الحياءِ حتى اجترأتُم على التفوهِ بالعظيمةِ الخارقةِ للعقولِ من ادعاءِ أنَّه تعالى آثركُم على نفسِه بخيرِ الصنفينِ وأعلاهُما وتركَ له شرَّهُما وأدناهُما. وتنكيرُ بناتِ وتعريفُ البنينَ لتربـيةِ ما اعتُبرَ فيهما من الحقارةِ والفخامةِ.

{ وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ مَثَلاً } الخ استئنافٌ مقررٌ لما قبلَهُ، وقيلَ حالٌ على مَعنْى أنَّهم نسبُوا إليه ما ذُكِرَ ومن حالِهم أنَّ أحدَهُم إذَا بُشِّرَ بهِ اغتمَّ. والالتفاتُ للإيذانِ باقتضاءِ ذكرِ قبائِحهم أنْ يُعرضَ عنهم وتُحكَى لغيرِهم تعجيباً منها أيْ إذَا أخبرَ أحدُهم بولادةِ ما جعلَه مثلاً له سُبحانَه إذِ الولدُ لا بُدَّ أنْ يجانسَ الوالدَ ويماثلَهُ { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } أي صارَ أسودَ في الغايةِ من سوءِ ما بُشِّرَ به { وَهُوَ كَظِيمٌ } مملوءٌ من الكربِ والكآبةِ. والجملةُ حالٌ وقُرِىءَ مُسودُّ ومُسوادٌّ، على أنَّ في ظَلَّ ضميرُ المبشِّرِ، ووجهُهُ مسودٌّ جملةٌ وقعتْ خبراً لهُ.

{ أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِى ٱلْحِلْيَةِ } تكريرٌ للإنكارِ، وتثنية للتوبـيخِ. ومَنْ منصوبةٌ بمضمرِ معطوفٍ على جعلُوا أي أو جعلُوا مَنْ شأنُهُ أنْ يُربَّى في الزينةِ وهُو عاجزٌ عنْ أنْ يتولَّى أمره بنفسهِ، فالهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه، وقد جُوِّزَ انتصابُها بمضمرٍ معطوفٍ على اتخذَ فالهمزةُ حينئذٍ لإنكارِ الوقوعِ واستبعادِه، وإقحامُها بـين المعطوفينِ لتذكيرِ ما في أمِ المنقطعةِ من الإنكارِ وتأكيدهِ. والعطفُ للتغايرِ العُنوانِي أيْ أوَ اتخذَ من هذهِ الصفةِ الذميمةِ صفتَهُ { وَهُوَ } مع ما ذُكِرَ من القصورِ { فِى ٱلْخِصَامِ } أي الجدالِ الذي لا يكادُ يخلُو عنه الإنسانُ في العادةِ { غَيْرُ مُبِينٍ } غيرُ قادرٍ على تقريرِ دعواهُ وإقامةِ حُجَّتِه لنقصانِ عقلِه وضعفِ رأيه. وإضافةُ غيرُ لا تمنعُ عملَ ما بعدَهُ في الجارِّ المتقدمِ لأنَّه بمعْنى النَّفي. وقُرِىءَ ينُشأُ، ويُنَاشَأُ من الإفعالِ والمفاعلةِ والكلُّ بمَعْنى واحدٍ، ونظيرُه غَلاهُ وأغلاهُ وغالاهُ.