الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } * { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ }

{ أَوْ يُزَوّجُهُمْ } أي يقرن بـين الصنفينِ فيهبهما جميعاً { ذُكْرَاناً وَإِنَـٰثاً } قالُوا مَعْنى يُزوِّجَهُم أنْ تَلِدَ غُلاماً ثم جَارِيةً أو جارية ثمَّ غُلاماً أو تلدُ ذكراً وأُنْثى توأمينِ. { وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً } والمَعْنى يجعلُ أحوالَ العبادِ في حقِّ الأولادِ مختلفةً على ما تقتضيِه المشيئةُ فيهن فيهبُ لبعضٍ إمَّا صنفاً واحداً منْ ذكرٍ أو أُنْثى وإمَّا صنفينِ ويُعقمُ آخرَين. ولعلَّ تقديمَ الإناثِ لأنَّها أكثرُ لتكثيرِ النسلِ أولأنَّ مساقَ الآيةِ للدلالةِ على أنَّ الواقعَ ما تتعلقُ به مشيئته تعالى لا ما تتعلقُ به مشيئة الإنسانِ والإناثُ كذلكَ أو لأنَّ الكلامَ في البلاءِ والعربُ تعدُّهنَّ أعظمَ البَلاَيا أو لتطيـيبِ قلوبِ آبائِهنَّ أو للمحافظةِ على الفواصلِ ولذلكَ عرَّفَ الذكورَ أو لجبرِ التأخيرِ. وتغيـيرُ العاطفِ في الثالثِ لأنه قسيمُ المشتركِ بـينَ القسمينِ ولا حاجةَ إليهِ في الرابعِ لإفصاحهِ بأنَّ قسيمَ المشتركِ بـين الأقسامِ المتقدمةِ وقيلَ: المرادُ بـيانُ أحوالِ الأنبـياءِ عليهم السَّلامُ حيثُ وهبَ لشعيبَ ولوطٍ إناثاً ولإبراهيمَ ذكوراً وللنبـيِّ صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاً وجعلَ يحيـى وعيسى عقيمينِ { إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } مبالغٌ في العلمِ والقدرةِ فيفعلُ ما فيهِ حكمةٌ ومصلحةٌ.

{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ } أيْ وما صَحَّ لفردٍ من أفراد البشرِ { أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ } بوجهٍ منِ الوجوهِ { إِلاَّ وَحْياً } أيْ إلاَّ بأنْ يُوحيَ إليهِ ويلهمَهُ ويقذفَ في قلبهِ كما أَوْحى إلى أمِّ مُوسى وإلى إبراهيمَ عليهما السَّلامُ في ذَبْحِ ولدهِ، وقَدْ رُويَ عن مجاهدٍ: أَوْحَى الله الزبورَ إلى داودَ عليهِ السَّلامُ في صدرِه. أو بأنْ يُسمعَهُ كلامَهْ الذي يخلُقه في بعضِ الأجرامِ من غيرِ أنْ يُبصرَ مَنْ يكلمُه وهُو المرادُ بقولِه تعالى { أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } فإنه تمثيلٌ له بحالِ الملكِ المحتجبِ الذي يكلِّمُ بعضَ خواصِّهِ من وراءِ الحجاب يُسمعُ صوتَهُ ولا يَرَى شخصَهُ وذلكَ كما كلَّم مُوسى وكما يكلِّمُ الملائكةَ عليهم السَّلامُ أو بأنْ يكلمَهُ بواسطةِ المَلَكِ. وذلكَ قولُه تعالى { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } أي مَلَكاً { فَيُوحِىَ } ذلكَ الرسولُ إلى المرسلِ إليهِ الذي هو الرسولُ البشَريُّ { بِإِذْنِهِ } أي بأمرِه تعالَى وتيسيرِه { مَا يَشَاء } أنْ يوحيَهُ إليهِ وهَذا هو الذي يَجْري بـينَهُ تعالى وبـينَ الأنبـياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ في عامَّةِ الأوقاتِ من الكلامِ، وقيلَ: قولُه تعالى وحياً وقولُه تعالى أو يرسلَ مصدرانِ واقعانِ موقعَ الحالِ وقولُه تعالَى أو منْ وراءِ حجابٍ ظرفٌ واقعٌ موقعَها، والتقديرُ وما صَحَّ أن يكلمَ إلا مُوحياً أو مُسمعاً من وراءِ حجابٍ أو مُرسلاً. وقُرِىءَ أو يرسلُ بالرفعِ على إضمار مبتدأٍ، ورُويَ أنَّ اليهودَ قالتْ للنبـيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ألا تكلمَ الله وتنظرَ إليهِ إنْ كنتَ نبـياً كما كلَّمه مُوسى ونظرَ إليهِ فإنَّا لن نؤمنَ حتَّى تفعلَ ذلكَ فقال عليه السَّلامُ لمْ بنظُرْ مُوسى عليه السَّلامُ إلى الله تعالى فنزلتْ. وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها: " من زَعَمَ أنَّ محمداً رأى ربَّه فقدْ أعظمَ على الله الفريةَ، ثم قالتْ رضيَ الله عْنُها: أو لم تسمعُوا ربَّكُم يقولُ فتلتْ هَذِهِ الآيةَ ". { إِنَّهُ عَلِىٌّ } متعالٍ عن صفاتِ المخلوقينَ لا يتأتَّى جَرَيانُ المفاوضةِ بـينَهُ تعالى وبـينَهم إلا بأحدِ الوجوهِ المذكورةِ { حَكِيمٌ } يُجْري أفعالَهُ على سُنَنِ الحكمةِ فيكلمُ تارةً بواسطةٍ وأُخرى بدونِها إمَّا إلهاماً وإما خطاباً.