الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ } * { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } * { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { تَرَى ٱلظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ }

{ ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } أي برٌّ بليغُ البِرِّ بهم يُفيض عليهم من فنون ألطافِه ما لا يكادُ ينالُه أيدي الأفكارِ والظنونِ { يَرْزُقُ مَن يَشَاء } أنْ يرزقه كيفما يشاءُ فيخصُّ كلاً من عباده بنوعٍ من البرِّ على ما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحِكم البالغةِ. { وَهُوَ ٱلْقَوِىُّ } الباهرُ القدرةِ الغالبُ على كلِّ شيءٍ { ٱلْعَزِيزُ } المنيعُ الذي لا يغلبُ. { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ } الحرثُ في الأصل إلقاءُ البَذْرِ في الأرض يُطلقُ على الزرع الحاصلِ منه المتضمن لتشبـيهِ الأعمالِ بالبذورِ ويستعملُ في ثمرات الأعمالِ ونتائجِها بطرق الاستعارةِ المبنيةِ على تشبـيِهها بالغلال الحاصلةِ من البذورِ أي من كانَ يريدُ بأعماله ثوابَ الآخرةِ { نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ } نضاعفْ له ثوابَهُ بالواحد عشرةً إلى سبعمائةٍ فما قوقَها { وَمَن كَانَ يُرِيدُ } بأعماله { حَرْثَ ٱلدُّنْيَا } وهو متاعُها وطيباتُها { نُؤْتِهِ مِنْهَا } أي شيئاً منها حسبما قسمنَا لهُ لا ما يريدُه ويبتغيه { وَمَا لَهُ فِى ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } إذْ كانتْ همتُه مقصورةً على الدُّنيا وقد مرَّ تفصيلُه في سورة الإسراء.

{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء } أي بلْ ألهُم شركاءُ من الشياطينِ، والهمزةُ للتقرير والتقريعِ { شَرَعُواْ لَهُمْ } بالتسويل { مّنَ ٱلدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ } كالشرك وإنكارِ البعثِ والعملِ للدُّنيا، وقيلَ: شركاؤُهم أوثانُهم وإضافتُها إليهم لأنَّهم الذينَ جعلُوها شركاءَ لله تعالَى وإسنادُ الشرعِ إليها لأنَّها سببُ ضلالتِهم وافتتانِهم كقوله تعالى: { إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا } [سورة إبراهيم، الآية 36] أو تماثيلُ مَنْ سنَّ الضلالَة لهُم { وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ } أي القضاءِ السابقِ بتأخيرِ الجزاءِ أو العدةُ بأنَّ الفصلَ يكونُ يومَ القيامةِ { لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } أي بـين الكافرينَ والمؤمنينَ أو بـينَ المشركينَ وشركائِهم { وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقُرِىءَ بالفتحِ عطفاً على كلمة الفصلِ أي ولولا كلمةُ الفصلِ وتقديرُ عذابِ الظالمينَ في الآخرةِ لقُضيَ بـينهم في الدُّنيا فإنَّ العذابَ الأليمَ غالبٌ في عذابِ الآخرةِ.

{ تَرَى ٱلظَّـٰلِمِينَ } يومَ القيامةِ والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممن يصلحُ له للقصدِ إلى أنَّ سوءَ حالِهم غيرُ مختصَ برؤية راءٍ دونَ راءٍ { مُشْفِقِينَ } خائفينَ { مِمَّا كَسَبُواْ } من السيئاتِ { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } أيْ ووبالُه لاحقٌ بهم لا محالةَ أشفقُوا أو لم يُشفقُوا، والجملةُ حالٌ من ضمير مشفقينَ أو اعتراضٌ { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فِى رَوْضَـٰتِ ٱلْجَنَّـٰتِ } مستقرونَ في أطيب بقاعِها وأنزهِها { لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ } أي ما يشتهونَهُ من فنون المستلذاتِ حاصلٌ لهم عندَ ربِّهم على أنَّ عندَ ربِّهم ظرفٌ للاستقرارِ العاملِ في لهم، وقيلَ ظرفٌ ليشاءون { ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من حال المؤمنين، وما فيهِ منْ مَعْنى البُعد للإيذان ببُعد منزلةِ المشارِ إليه { هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } الذي لا يُقادَرُ قَدرُه ولا يُبلغُ غايتُه.