الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } * { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } * { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } * { أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ }

{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَـٰنِ أَعْرَضَ } أي عنِ الشكرِ { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } أي ذهبَ بنفسِه وتباعدَ بكليتِه تكبـيراً وتعظيماً والجانبُ مجازٌ عن النفسِ كما في قولِه تعالَى:فِى جَنبِ ٱللَّهِ } [سورة الزمر، الآية 56] ويجوزُ أن يرادَ به عِطْفُه ويكونَ عبارةً عن الانحرافِ والازورارِ كما قالُوا: «ثَنَى عِطْفَةُ وتولَّى بركنِه»: { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } أي كثيرٍ مستعارٌ مما لَه عَرْضٌ متسعٌ للإشعارِ بكثرتِه واستمرارِه وهو أبلغُ من الطويلُ إذ الطول أطولُ الامتدادينِ فإذا كان عرضُه كذلكَ فما ظنُّك بطولِه. ولعلَّ هذا شأنُ بعضٍ غيرِ البعضِ الذي حُكِيَ عنه اليأسُ والقنوطُ أو شأنُ الكلِّ في بعضِ الأوقاتِ.

{ قُلْ أَرَءَيْتُمْ } أي أخبرونِي { إِن كَانَ } أي القرآنُ { مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ } مع تعاضدِ موجباتِ الإيمانِ به { مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي من أضلُّ منكُم، فوضعَ الموصولَ موضعَ الضميرِ شرحاً لحالهِم وتعليلاً لمزيدِ ضلالِهم { سَنُرِيهِمْ ءايَـٰتِنَا } الدالَة على حقّيته وكونِه من عندِ الله { فِى ٱلأَفَاقِ } هو ما أخبرهم به النبـي صلى الله عليه وسلم من الحوادثِ الآتيةِ وآثارِ النوازلِ الماضيةِ وما يسرّ الله تعالَى له ولخلفائِه من الفتوحِ والظهورِ على آفاقِ الدنيا والاستيلاءِ على بلادِ المشارقِ والمغاربِ على وجهٍ خارقٍ للعادةِ { وَفِى أَنفُسِهِمْ } هو ما ظهرَ فيما بـينَ أهلِ مكةَ وما حلَّ بهم وقال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما في الآفاق أي منازلِ الأممِ الخاليةِ وآثارِهم وفي أنفسِهم يومُ بدرٍ وقال مجاهدٌ والحسنُ والسُدِّيُّ في الآفاقِ ما يفتحُ الله من القُرَى عليهِ عليه الصلاةُ والسلامُ والمسلمينَ وفي أنفسِهم فتحُ مكةَ وقيلَ: في الآفاقِ أي في أقطار السمواتِ والأرضِ من الشمسِ والقمرِ والنجومِ وما يترتبُ عليها من الليلِ والنهارِ والأضواءِ والظلالِ والظلماتِ ومن النباتِ والأشجارِ والأنهارِ وفي أنفسهم من لطيفِ الصنعة وبديعِ الحكمةِ في تكوينِ الأجنةِ في ظلماتِ الأرحامِ وحدوثِ الأعضاءِ العجيبةِ والتركيباتِ الغريبةِ كقولِه تعالى:وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [سورة الذاريات، الآية 21] واعتذرَ بأنَّ معنَى السينِ مع أنَّ إراءةَ تلك الآياتِ قد حصلتْ قبلَ ذلكَ أنه تعالَى سيطلعُهم على تلك الآياتِ زماناً فزمانا ويزيدُهم وقوفاً على حقائِقِها يوماً فيوماً { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ } بذلكَ { أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } أي القرآنُ أو الإسلامُ والتوحيدُ.

{ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ } استئنافٌ واردٌ لتوبـيخهِم عَلى ترددهم في شأنِ القرآنِ وعنادِهم المُحوجِ إلى إراءةِ الآياتِ وعدمِ اكتفائِهم بإخبارِه تعالَى، والهمزةُ للإنكارِ، والواوُ للعطفِ عَلى مقدرَ يقتضيِه المقامُ أيْ ألَمْ يغنِ ولم يكفِ ربُّكَ والباءُ مزيدةٌ لتأكيدِ ولاَ تكادُ تزاد إلا معَ كَفَى. وقولُه تعالى: { أَنَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } بدلٌ منهُ أيْ أَلَم يُغنِهم عن إراءةِ الآياتِ الموعودةِ المبـينةِ لحقيةِ القُرانِ ولم يكفهم في ذلكَ أنه تعالَى شهيدٌ على جميعِ الأشياءِ، وقد أخبرَ بأنَّه منْ عندِه وقيلَ: معناهُ أنَّ هَذا الموعودَ من إظهارِ آياتِ الله في الآفاقِ وفي أنفسِهم سيرونَهُ ويشاهدونَهُ فيتبـينونَ عند ذلكَ أنَّ القرآنَ تنزيلُ عالمِ الغيبِ الذي هُو عَلى كلِّ شيءٍ شهيدَّ أي مطّلعٌ يستوِي عندَهُ غيبُه وشهادتُه فيكفيهم ذلك دليلاً على أنه حقٌّ وأنَّه منْ عندِه ولو لم يكُن كذلكَ لما قُوِيَ هذه القوةَ ولما نُصرَ حاملُوه هذهِ النُصرةَ فتأملُ.

السابقالتالي
2