الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } * { فَقَضَٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ }

وقوله تعالى:

{ ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء } شروعٌ في بـيان كيفيةِ التكوينِ إثرَ كيفيةِ التقديرِ، ولعلَّ تخصيصَ البـيانِ بما يتعلقُ بالأرض وأهلِها لما أن بـيان اعتنائِه تعالى بأمر المخاطبـين وترتيبِ مبادِي معايشِهم قبلَ خلقِهم مما يحملُهم على الإيمان ويزجُرهم عن الكفر والطغيانِ أي ثم قصدَ نحوهَا قصداً سوياً لا يلوِي على غيرِه { وَهِىَ دُخَانٌ } أي أمرٌ ظلمانيٌّ عبرَ به عن مادتها أو عن الأجزاء المتصغرةِ التي ركبتْ هي منها أو دخانٌ مرتفعٌ من الماءِ كما سيأتي وإنما خصَّ الاستواءَ بالسماءِ مع أن الخطابَ المترتبَ عليه متوجهٌ إليهما معاً حسبما ينطقُ به قولُه تعالى: { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ } اكتفاءً بذكر تقديرِ ما فيها كأنه قيل فقال لها وللأرض التي قدرَ وجودَ ما فيها: { ٱئْتِيَا } أي كُونا واحدُثا على وجه معينٍ وفي وقت مقدرٍ لكل منكُما وهو عبارةٌ عن تعلق إرادتِه تعالى بوجودهما تعلقاً فعلياً بطريق التمثيلِ بعد تقديرِ أمرِهما من غير أن يكونَ هناك أمرٌ ومأمورٌ كما في قوله تعالى كُنْ وقولُه تعالى: { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } تمثيلٌ لتحتم تأثيرِ قدرتِه تعالى فيهما واستحالةِ امتناعِهما من ذلكَ لا إثباتُ الطوعِ والكرهِ لهما وهما مصدرانِ وقعا موقعَ الحالِ، أي طائعتينِ أو كارهتينِ. وقولُه تعالى: { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } أي منقادينِ تمثيلٌ لكمال تأثرهما بالذات عن القدرة الربانيةِ وحصولِهما كما أُمرتا بهِ وتصويرٌ لكونِ وجودِهما كما هما عليه جارياً على مُقتضى الحكمةِ البالغةِ، فإن الطوعَ منبىءٌ عن ذلكَ والكُرهَ موهمٌ لخلافهِ وإنما قيلَ طائعينَ باعتبارِ كونِهما في معرض الخطابِ والجوابِ كقوله تعالى:سَـٰجِدِينَ } [سورة يوسف: الآية 4 وسورة الحجر: الآية 29 وسورة الشعراء: الآية 46 وسورة ص: الآية 72] قولُه تعالى: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ } تفسيرٌ وتفصيلٌ لتكوين السماءِ المجملِ المعبرِ عنه بالأمر وجوابِه لا أنه فعلٌ مترتبٌ على تكوينها أي خلقهنَّ خلقاً إبداعياً وأتقنَ أمرَهنَّ حسبما تقتضيهِ الحمكةُ. والضميرُ: إما للسماء على المَعْنى أو مبهمٌ وسبعَ سمواتٍ حالٌ على الأول تميـيزٌ على الثانِي { فِى يَوْمَيْنِ } في وقتٍ مقدرٍ بـيومينِ وقد بـينَ مقدارُ زمانِ خلقِ الأرضِ وخلقِ ما فيها عند بـيانِ تقديرهما فكانَ خلقُ الكلِّ في ستة أيامٍ حسبما نصَّ عليهِ في مواقعَ من التنزيلِ.

{ وَأَوْحَىٰ فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا } عطفٌ على (قضاهُنَّ) أي خلقَ في كلِّ منها ما فيها من الملائكة والنيّراتِ وغيرِ ذلك مما لا يعلمُه إلا الله تعالى كما قاله قَتَادةُ والسدِّيُ فالوحي عبارةٌ عن التكوينِ كالأمر مقيدٌ بما قُيد به المعطوفُ عليه من الوقت أو أوحى إلى أهل كلَ منَها أَو أمرَهُ وكلَّفهم ما يليقُ بهم من التكاليف فهو بمعناهُ ومطلقٌ عن القيد المذكورِ، وأياً ما كان فعلى ما قُررَ من التفصيل لا دِلالةَ في الآية الكريمةِ على الترتيب بـين إيجادِ الأرضِ وإيجادِ السماءِ وإنما الترتيبُ بـين التقديرِ والإيجادِ.

السابقالتالي
2 3