الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ }

{ ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } وَهُم أعلى طبقاتِ الملائكةِ عليهم السلامُ وأولُهم وجُوداً وحملهم إيَّاهُ وحفيفُهم حولَهُ مجازٌ عن حفظِهم وتدبـيرِهم له وكنايةٌ عن زُلفاهُم منْ ذِي العرشِ جَلَّ جَلالُه ومكانتِهم عِنْدُه وَمحلُّ الموصولِ الرفعُ عَلى الابتداءِ خبرُه:

{ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ببـيانِ أنَّ أشرافَ الملائكةِ عليهمُ السلامُ مثابروِنَ عَلَى ولايةِ مَنْ معهُ منَ المُؤمنينَ ونُصْرتِهم واستدعاءِ مَا يُسعِدُهم في الدارينِ أيْ ينزهونهُ تعالى عن كُلِّ ما لاَ يليقُ بشأنِه الجليلِ ملتبسينَ بحمدِهِ عَلى نعمائِه التي لاَ تتناهَى { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } إِيماناً حقيقياً بحالِهم، والتصريحُ بهِ مع الغنِىَ عن ذِكْرِهِ رَأْساً لإظهارِ فضيلةِ الإيمانِ وإبرازِ شرفِ أهلِه والإشعارِ بعلةِ دُعَائهم للمؤمنينَ حسبما ينطِقُ بهِ قولُه تَعالى: { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } فَإِنَّ المشاركةَ في الإيمانِ أقْوَى المناسباتِ وأتمُّها وأدعى الدَّواعِي إِلى النصحِ والشفقةِ، وفي نظمِ استغفارهم لهم في سلكِ وظائِفهم المفروضةِ عليهم منْ تسبـيحهم وتحميدِهم وإيمانهم إيذانٌ بكمالِ اعتنائِهم بهِ وإِشعارٌ بوقوعِهِ عندَ الله تعالى فِي مَوقعِ القَبولِ. رُوي أنَّ حملةَ العرشِ أرجلُهم في الأَرْضِ السُّفلى ورؤوسُهم قدْ خرقتِ العرشَ وهم خشوعٌ لا يرفعونَ طَرفهم. وعن النبـيِّ صلى الله عليه وسلم: " لا تتفكروا في عِظَمِ ربكم ولكنْ تفكروا فيمَا خلقَ الله من الملائكةِ فإنَّ خلقاً من الملائكةِ يقالُ لهُ إسرافيلُ زاويةٌ منْ زَوَايا العرشِ عَلى كاهلِهِ وقدماهُ في الأرضِ السُّفْلى وَقَدُ مرقَ رأسُهُ منْ سبعِ سمواتٍ وإنَّه ليتضاءلُ منْ عظمةِ الله حتَّى يصيرَ كأنُه الوصعُ " وَفِي الحديثِ: " إِنَّ الله أمرَ جميعَ الملائكةِ أَنْ يغدُوا ويروحُوا بالسلامِ عَلى حملةِ العرشِ تفضيلاً لهم عَلى سائِرهم " وقيل: خلقَ الله تعالى العرشَ من جوهرةٍ خضراءَ وبـينَ القائمتينِ من قوائمِهِ خفقان الطيرِ المسرعِ ثمانينَ عامٍ وقيل: حولَ العرشِ سبعونَ ألفَ صفّ منَ الملائكةِ يطوفونَ به مهللينَ مكبرينَ ومن ورائهم سبعونَ ألفَ صفٍ قيامٌ قد وضعُوا أيديَهُم عَلى عواتقِهم رافعينَ أصواتَهُم بالتهليلِ والتكبـيرِ ومنْ ورائِهم مائةُ ألفِ صفٍ قدْ وضعُوا أيمانَهُم عَلى الشمائلِ ما منهمْ أحدٌ إلا وهو يسبحُ بما لا يسبحُ بهِ الآخرُ { رَبَّنَا } عَلى إرادةِ القولِ أيْ يقولونَ ربَّنا عَلى أنَّه إمّا بـيانٌ لاستغفارِهم أوْ حالٌ.

{ وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْء رَّحْمَةً وَعِلْماً } أيْ وَسِعتْ رحمتُكَ وعلمُكَ فأزيلَ عنْ أصلِه للإغراقِ في وصفهِ تعالَى بالرحمةِ والعلمِ والمبالغةِ في عمومهمَا وتقديمُ الرحمةِ لأنَّها المقصودةُ بالذات هنها والفاءُ في قولِه تعالَى { فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } أي للذين عملتَ منهم التوبةَ واتباعَ سبـيلِ الحقِّ لترتيبِ الدعاءِ عَلَى ما قبلها مِنْ سعةِ الرحمةِ والعلمِ { وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } وَاحفظْهُم عنْهُ وهُوَ تصريحٌ بعدَ إِشعارٍ للتأكيدِ.