الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً }

{ لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ } بـيانٌ لتفاوت طبقاتِ المؤمنين بحسب تفاوتِ درجاتِ مساعيهم في الجهاد بعد ما مر من الأمر به وتحريضِ المؤمنين عليه ليأنَفَ القاعدُ عنه ويترفَّعَ بنفسه عن انحطاط رتبتِه فيهتزّ له رغبةً في ارتفاع طبقتِه، والمرادُ بهم الذين أُذِن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاءً بغيرهم. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هم القاعدون عن بدْر والخارجون إليها، وهو الظاهرُ الموافقُ لتاريخ النزولِ لا ما روي عن مقاتل من أنهم الخارجون إلى تبوك، فإنه مما لا يوافقه التاريخُ ولا يساعده الحالُ إذا لم يكن للمتخلّفين يومئذ هذه الرخصةُ.

وقولُه تعالى: { مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من القاعدين أي كائنين من المؤمنين وفائدتُها الإيذانُ من أول الأمرِ بعدم إخلالِ وصفِ القعودِ بإيمانهم، والإشعارُ بعلة استحقاقِهم لما سيأتي من الحُسنى { غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ } صفةٌ للقاعدين لجرَيانه مَجرىٰ النكرةِ حيث لم يُقصَدْ به قومٌ بأعيانهم، أو بدلٌ منه، وقرىء بالنصب على أنه حالٌ منه أو استثناء، وبالجر على أنه صفةٌ للمؤمنين أو بدلٌ منه والضررُ المرضُ أو العاهةُ من عمىً أو عرَجٍ أو زَمانةٍ أو نحوها، وفي معناه العجزُ عن الأُهبة. عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه أنه قال: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشِيَتْه السكينةُ فوقعت فخِذُه على فخذي حتى خشِيتُ أن ترُضَّها ثم سُرِّيَ عنه فقال: «اكتبْ» فكتبتُ { لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُجَـٰهِدُونَ } فقال ابنُ أمِّ مكتومٍ وكان أعمى: يا رسول الله وكيف بمن لا يستطيع الجهادَ من المؤمنين فغشيتْه السكينةُ كذلك ثم سُرِّي عنه فقال: «اكتب» { لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ } { وَٱلْمُجَـٰهِدُونَ } إيرادُهم بهذا العنوانِ دون الخروجِ المقابلِ لوصف المعطوفِ عليه كما وقع في عبارة ابنِ عباس رضي الله تعالى عنهما وكذا تقيـيدُ المجاهدةِ بكونها { فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } لمدحهم بذلك والإشعارِ بعلة استحقاقِهم لعلو المرتبةِ مع ما فيه من حسن موقعِ السبـيلِ في مقابلة القعودِ وتقديمِ القاعدين في الذكر، والإيذانِ من أول الأمرِ بأن القصورَ الذي يُنبىء عنه عدمُ الاستواءِ من جهتهم لا من جهة مقابليهم، فإن مفهومَ عدمِ الاستواءِ بـين الشيئين المتفاوتين زيادةً ونُقصاناً وإن جاز اعتبارُه بحسب زيادةِ الزائدِ لكن المتبادِرَ اعتبارُه بحسب قصورِ القاصر، وعليه قولُه تعالى:هَلْ يَسْتَوِى ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى ٱلظُّلُمَـٰتُ وَٱلنُّورُ } [الرعد، الآية 16] إلى غير ذلك وأما قولُه تعالى:هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر، الآية 9] فلعل تقديمَ الفاضلِ فيه لأن صلتَه ملكةٌ لصلة المفضولِ، وقولُه عز وجل: { فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَـٰعِدِينَ دَرَجَةً } استئنافٌ مَسوقٌ لتفصيل ما بـين الفريقين من التفاضل المفهومِ من ذكر عدمِ استوائِهما إجمالاً ببـيان كيفيتِه وكمِّيتِه مبنيٌّ على سؤال ينساق إليه المقالُ كأنه قيل: كيف وقع ذلك؟ فقيل: فضّل الله الخ، وأما تقديرُ ما لهم لا يستوون فإنما يليق بجعل الاستئنافِ تعليلاً لعدم الاستواءِ مَسوقاً لإثباته، وفيه عكسٌ ظاهرٌ فإن الذي يحِقُّ أن يكونَ مقصوداً بالذات إنما هو بـيانُ تفاضُلِ الفريقين على درجات متفاوتة، وأما عدمُ استوائِهما فقُصارى أمرِه أن يكون توطئةً لذكره، ولامُ المجاهدين والقاعدين للعهد، فقيدُ كونِ الجهادِ في سبـيل الله معتبرٌ في الأول كما أن قيدَ عدمِ الضررِ معتبرٌ في الثاني، و { دَرَجَةً } نُصب على المصدرية لوقوعها موقعَ المرَّةِ من التفضيل أي فضل الله تفضيلةً أو على نزع الخافضِ أي بدرجة، وقيل: على التميـيز، وقيل: على الحالية من المجاهدين أي ذوي درجةٍ وتنوينُها للتفخيم، وقوله تعالى: { وَكُلاًّ } مفعولٌ أولٌ لما يعقُبه قُدّم عليه لإفادة القصرِ تأكيداً للوعد أي كلَّ واحدٍ من المجاهدين والقاعدين { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } أي المثوبةَ الحسنى وهي الجنةُ لا أحدَهما فقط كما في قوله تعالى:

السابقالتالي
2