الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }

{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً } لمّا بـيّن حُكمَ القتلِ خطأً وفصَّل أقسامَه الثلاثةَ عقّب ذلك ببـيان القتلِ عمداً خلا أن حكمَه الدنيويَّ لما بُـيِّن في سورة البقرةِ اقتُصر هٰهنا على حُكمه الأخرويِّ. روي أن مِقْيَسَ بنَ صُبَابةَ الكِنانيَّ وكان قد أسلم هو وأخوه هشامٌ وجَد أخاه قتيلاً في بني النجارِ، فأتىٰ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وذكر له القصةَ فأرسل عليه السلام معه زبـيرَ بنَ عِياضٍ الفِهريَّ وكان من أصحاب بدرٍ إلى بني النجار يأمرُهم بتسليم القاتلِ إلى مقيسٍ ليقتصَّ منه إن علموه وبأداء الديةِ إن لم يعلموه، فقالوا: سمعاً وطاعةً لله تعالى ولرسوله عليه السلام ما نعلم له قاتلاً ولكنا نؤدّي دِيتَه فأتَوْه بمائة من الإبل فانصَرفا راجعَيْن إلى المدينة حتى إذا كانا ببعض الطريقِ أتى الشيطانُ مِقْيَساً فوسوس إليه فقال: أتقبل دِيةَ أخيك فيكونَ مَسَبَّةً عليك؟ اقتُل الذي معك فيكونَ نفساً بنفس وفضلَ الديةِ فتغفّل الفِهريَّ فرماه بصخرة فشدَخَه ثم ركِب بعيراً من الإبل واستاق بقيتَها راجعاً إلى مكةَ كافراً وهو يقول: [الطويل]
قتلتُ به فِهراً وحمَّلْتُ عَقُلَه   سَراةَ بني النجارِ أصحابَ قارعِ
وأدركتُ ثأري واضطجعتُ موسّدا   وكنت إلى الأوثان أولَ راجعِ
فنزلت، وهو الذي استثناه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتحِ ممن أمّنه فقُتل وهو متعلِّقٌ بأستار الكعبةِ، وقوله تعالى: { مُّتَعَمّداً } [النساء، الآية: 93] حالٌ من فاعل يقتل، وروي عن الكسائي سكونُ التاءِ كأنه فر من توالي الحركات { فَجَزَاؤُهُ } الذي يستحقه بجنايته { جَهَنَّمُ } وقولُه تعالى: { خَالِداً فِيهَا } حالٌ مقدرةٌ من فاعل فعلٍ مقدرٍ يقتضيه المقامُ كأنه قيل: فجزاؤه أن يدخُلَ جهنَّم خالداً فيها، وقيل: هو حالٌ من ضمير يجزاها، وقيل: من مفعول جازاه، وأُيّد ذلك بأنه أنسبُ بعطف ما بعده عليه لموافقته له صيغةً، ولا يخفى أن ما يُقدّر للحال أو للعطف عليه حقُّه أن يكون مما يقتضيه المقامُ اقتضاءً ظاهراً ويدل عليه الكلامُ دَلالةً بـينةً، وظاهرٌ أن كونَ جزائِه ما ذُكر لا يقتضي وقوعَ الجزاءِ البتةَ كما ستقف عليه حتى يُقدَّرَ يُجزاها أو جازاه بطريق الإخبارِ عن وقوعه، وأما قولُه تعالى: { وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } فمعطوفٌ على مقدر يدل عليه الشرطيةُ دِلالةً واضحةً كأنه قيل بطريق الاستئنافِ تقريراً وتأكيداً لمضمونها: حكمُ الله بأن جزاءَه ذلك وغضِب عليه أي انتقم منه { وَلَعَنَهُ } أي أبعده عن الرحمة بجعل جزائِه ما ذكر، وقيل: هو وما بعده معطوفٌ على الخبر بتقدير أنّ، وحملُ الماضي على معنى المستقبلِ كما في قوله تعالى:وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ } [الكهف، الآية 99. ويس، الآية 51. والزمر، الآية 68. وق، الآية 20] ونظائرِه أي فجزاؤُه جهنمُّ وأن يغضَبَ الله عليه الخ { وَأَعَدَّ لَهُ } في جهنم { عَذَاباً عَظِيماً } لا يقادَر قَدْرُه ولِما ترى في الآية الكريمةِ من التهديد الشديدِ والوعيد الأكيدِ وفنونِ الإبراق والإرعادِ وقد تأيدت بما رُوي من الأخبار الشِّداد كقوله عليه الصلاة والسلام:

السابقالتالي
2