الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }

{ فَمَا لَكُمْ } مبتدأٌ وخبرٌ، والاستفهامُ للإنكار والنفي، والخطابُ لجميع المؤمنين لكنّ ما فيه من معنى التوبـيخِ متوجهٌ إلى بعضهم، وقولُه تعالى: { فِى ٱلْمُنَـٰفِقِينَ } متعلقٌ إما بما تعلق به الخبرُ، أي أيُّ شيءٍ كائنٌ لكم فيهم أي في أمرهم وشأنِهم، فحُذف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه، وإما بما يدل عليه قولُه تعالى: { فِئَتَيْنِ } من معنى الافتراقِ أي فما لكم تفترقون في المنافقين، وإما بمحذوف وقع حالاً من فئتين أي كائنتين في المنافقين لأنه في الأصل صفةٌ فلما قُدّمت انتصبت على الحال كما هو شأنُ صفاتِ النكراتِ على الإطلاق، أو من الضمير في تفترقون وانتصابُ فئتين عند البصْريـين على الحالية من المخاطَبـين والعاملُ ما في لكم من معنى الفعلِ، كما في قوله تعالى:فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [المدثر، الآية 49] وعند الكوفيـين على خبرية كان مُضمرةً أي فما لكم في المنافقين كنتم فئتين، والمرادُ إنكارُ أن يكون للمخاطبـين شيءٌ يصحّح اختلافَهم في أمر المنافقين وبـيانِ وجوبِ بتِّ القولِ بكفرهم، وإجرائهم مُجرى المجاهرين بالكفر في جميع الأحكامِ. وذكرُهم بعنوان النفاقِ باعتبار وصفِهم السابق. روي (أنهم قومٌ من المنافقين استأذنوا رسولَ الله عليه الصلاة والسلام في الخروج إلى البدو معتلين باجتواء المدينةِ فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مَرْحلةً فمرحلة حتى لحِقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون في أمرهم) وقيل: هم قوم هاجروا من مكةَ إلى المدينة ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا على دينك وما أخرَجَنا إلا اجتواءُ المدينةِ والاشتياقُ إلى بلدنا، وقيل: (هم ناسٌ أظهروا الإسلامَ وقعدوا عن الهجرة)، وقيل: (هم قومٌ خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ثم رجعوا)، ويأباه ما سيأتي من جعل هِجرتِهم غايةً للنهي عن تولِّيهم، وقيل: هم العُرَنيّون الذين أغاروا على السَّرْح وقتلوا راعيَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ويردّه ما سيأتي من الآيات الناطقةِ بكيفية المعاملة معهم من السلم والحربِ وهؤلاء قد أُخذوا وفُعل بهم ما فُعل من المُثلةِ والقتلِ ولم يُنقلْ في أمرهم اختلافُ المؤمنين.

{ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ } حال من المنافقين مفيدةٌ لتأكيد الإنكارِ السابقِ واستبعادِ وقوعِ المنكرِ ببـيان وجودِ النافي بعد بـيانِ عدمِ الداعي، وقيل: من ضمير المخاطبـين والرابطُ هو الواو أي أيُّ شيءٍ يدعوكم إلى الاختلاف في كفرهم مع تحقق ما يوجب اتفاقَكم على كفرهم، وهو أن الله تعالى قد ردهم في الكفر كما كانوا { بِمَا كَسَبُواْ } بسبب ما كسَبوه من الارتداد واللّحوقِ بالمشركين والاحتيالِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعائدُ إلى الموصول محذوفٌ، وقيل: ما مصدريةٌ أي بكسبهم، وقيل: معنى أركسهم نَكّسهم بأن صيَّرهم للنار وأصلُ الرِّكسِ ردُّ الشيءِ مقلوباً، وقرىء رَكَّسهم مشدداً ورَكَسَهم أيضاً مخففاً { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ } تجريدٌ للخطاب وتخصيصٌ له بالقائلين بإيمانهم من الفئتين وتوبـيخٌ لهم على زعمهم ذلك وإشعارٌ بأنه يؤدي إلى محاولة المُحالِ الذي هو هدايةُ من أضله الله تعالى، وذلك بأن الحُكمَ بإيمانهم وادعاءِ اهتدائِهم ــ وهم بمعزل من ذلك ــ سعيٌ في هدايتهم وإرادةٌ لها، ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِ المنافقين لتشديد الإنكارِ وتأكيدِ استحالةِ الهدايةِ بما ذكر في حيز الصلةِ.

السابقالتالي
2