الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً }

وقولُه تعالى: { مَّا أَصَـٰبَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } الخ، بـيانٌ للجواب المُجْملِ المأمورِ به، وإجراؤُه على لسان النبـيِّ عليه الصلاة والسلام ثم سَوْقُ البـيانِ من جهته عز وجل بطريق تلوبنِ الخطابِ وتوجيهِه إلى كل واحدٍ من الناس، والالتفاتُ لمزيد الاعتناءِ به والاهتمامُ بردِّ مقالتِهم الباطلةِ والإشعارِ بأن مضمونَه مبنيٌّ على حكمة دقيقةٍ حتى بأن يتولىٰ بـيانَها علامُ الغيوبِ، وتوجيهُ الخطابِ إلى كل واحدٍ منهم دون كلِّهم كما في قوله تعالى:وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى، الآية 30] للمبالغة في التحقيق بقطع احتمالِ سببـيّة معصيةِ بعضِهم لعقوبة الآخرين أي ما أصابك من نعمة من النعم { فَمِنَ ٱللَّهِ } أي فهي منه تعالى بالذات تفضُلاً وإحساناً من غير استيجابٍ لها مِنْ قِبَلك، كيف لا وأن كلَّ ما يفعله المرءُ من الطاعات التي يُفرض كونُها ذريعةً إلى إصابة نعمةٍ ما فهي بحيث لا تكاد تكافىءُ نعمةَ حياتِه المقارنةِ لأدائها، ولا نعمةَ إقدارِه تعالى إياه على أدائها فضلاً عن استيجابها لنعمة أخرى ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " " ما أحدٌ يدخُل الجنة إلا برحمة الله تعالى " قيل: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: " ولا أنا "

{ وَمَا أَصَـٰبَكَ مِن سَيّئَةٍ } أي بلية من البلايا { فَمِن نَّفْسِكَ } أي فهي منها بسبب اقترافِها المعاصيَ الموجبةَ لها، وإن كانت من حيث الإيجادُ منسوبةً إليه تعالى نازلةً من عنده عقوبةً كقوله تعالى:وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [الشورى، الآية 30] وعن عائشةَ رضي الله عنها: «ما من مسلم يُصيبه وصَبٌ ولا نصَبٌ حتى الشوكةُ يُشاكُها وحتى انقطاعُ شِسْعِ نعلِه إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثرُ»، وقيل: الخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قبله وما بعده، لكن لا لبـيان حالِه عليه الصلاة والسلام بل لبـيان حالِ الكفرةِ بطريق التصويرِ، ولعل ذلك لإظهار كمالِ السخطِ والغضبِ عليهم والإشعارِ بأنهم ــ لفرط جهلِهم وبلادتهم ــ بمعزل عن استحقاق الخطابِ لا سيما بمثل هذه الحكمةِ الأنيقة { وَأَرْسَلْنَـٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً } بـيانٌ لجلالة منصبِه عليه الصلاة والسلام ومكانتِه عند الله عز وجل بعد بـيانِ بُطلانِ زعمِهم الفاسدِ في حقه عليه الصلاة والسلام بناءً على جهلهم بشأنه الجليلِ، وتعريفُ الناسِ للاستغراق، والجارُّ إما متعلقٌ برسولاً قُدّم عليه للاختصاص الناظرِ إلى قيد العمومِ أي مرسَلاً لكل الناس لا لبعضهم فقط كما في قوله تعالى:وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ } [سبأ، الآية 28] وإما بالفعل، فرسولاً حالٌ مؤكدةٌ وقد جُوِّز أن يكون مصدراً كما في قوله: [الطويل]
لقد كذَب الواشون ما فُهْتُ عندهم   بسرَ ولا أرسلتُهم برسولِ
أي بإرسال بمعنى رسالة { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } أي على رسالتك، بنصب المعجزاتِ التي من جملتها هذا النصُّ الناطقُ والوحيُ الصادِقُ، والالتفاتُ لتربـية المهابةِ وتقويةِ الشهادة، والجملةُ اعتراضٌ تذيـيليٌّ.