الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً }

{ أَلَمْ تَرَ ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ } تعجيبٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم من إحجامهم عن القتال مع أنهم كانوا قبل ذلك راغبـين فيه حِراصاً عليه بحيث كادوا يباشرونه كما ينبىء عنه الأمرُ بكفّ الأيدي فإن ذلك مُشعرٌ بكونهم بصدد بسطِها إلى العدو بحيث يكادون يسطون بهم، قال الكلبـي: " إن جماعةً من أصحاب النبـي عليه الصلاة والسلام منهم عبدُ الرحمٰن بنُ عوفٍ الزُّهري والمقداد بنُ الأسودِ الكنديُّ وقُدامةُ بنُ مظعونٍ الجُمَحي وسعدُ بنُ أبـي وقاص الزُّهري رضي الله تعالى عنهم كانوا يلقَوْن من مشركي مكةَ قبل الهجرةِ أذى شديداً فيشكون ذلك إلى النبـي عليه الصلاة والسلام ويقولون: ائذنْ لنا في قتالهم، فيقول لهم النبـي عليه الصلاة والسلام: " كُفّوا أيديَكم { وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاة } فإني لم أُومْر بقتالهم " ، وبناءُ القولِ للمفعول مع أن القائلَ هو النبـيُّ عليه الصلاة والسلام للإيذان بكون ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى ولأن المقصودَ بالذات والمعتبرَ في التعجيب إنما هو كمالُ رغبتِهم في القتال وكونُهم بحيث احتاجوا إلى النهي عنه، وإنما ذُكر في حيز الصِّلةِ الأمرُ بكف الأيدي لتحقيقه وتصويرِه على طريقة الكنايةِ فلا يتعلق ببـيان خصوصيةِ الأمرِ غرضٌ، وكانوا في مدة إقامتِهم بمكةَ مستمرِّين على تلك الحالةِ فلما هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأُمروا بالقتال في وقعة بدرٍ كرِهَه بعضُهم وشق ذلك عليه لكنْ لا شكّاً في الدين ولا رغبةً عنه بل نفوراً عن الإخطار بالأرواح وخوفاً من الموت بموجَب الجِبِلَّة البشريةِ وذلك قولُه تعالى: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ } الخ، وهو عطفٌ على { قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ } [النساء، الآية 77] باعتبار مدلولِه الكنائيِّ إذْ حينئذٍ يتحقق التبايُنُ بـين مدلولَي المعطوفَين وعليه يدور أمرُ التعجيبِ كأنه قيل: ألم ترَ إلى الذين كانوا حِراصاً على القتال، فلما كُتب عليهم كرِهَه بعضُهم، وقولُه تعالى: { إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ } جوابُ لمّا على أن فريقٌ مبتدأٌ، ومنهم متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً له ويخشَوْن خبرُه، وتصديرُه بإذا المفاجَأةِ لبـيان مسارعتِهم إلى الخشية آثِرَ ذي أثيرٍ من غير تلعثمٍ وتردد، أي فاجأ فريقٌ منهم أن يخشوا الكفارَ أن يقتلوهم ولعل توجيهَ التعجيبِ إلى الكل مع صدور الخشيةِ عن بعضهم للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدُر عن أحدهم ما ينافي حالتَهم الأولى، وقولُه تعالى: { كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ } مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ محلُّه النصبُ على أنه حال من فاعل يخشَون أي يخشَوْنهم مُشْبِهين لأهل خشيةِ الله تعالى { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } عطفٌ عليه بمعنى أو أشدَّ خشيةً من أهل خشيةِ الله، أو على أنه مصدرٌ مؤكدٌ على جعل الخشيةِ ذاتَ خشيةٍ مبالغةً كما في جدّ جِدُّه أي يخشَوْنهم خشيةً مثلَ خشيةِ الله أو خشيةً أشدَّ خشيةً من خشية الله.

السابقالتالي
2