الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } * { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً }

{ أمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ } منقطعةٌ أيضاً مفيدةٌ للانتقال من توبـيخهم بما سبق إلى توبـيخهم بالحسد الذي هو شرُّ الرذائلِ وأقبحُها لا سيما على ما هم بمعزل من استحقاقه، واللام في الناس للعهد والإشارةِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وحملُه على الجنس ــ إيذاناً بحيازتهم للكمالات البشريةِ قاطبةً فكأنهم هم الناسُ لا غيرُ لا يلائمه ذكرُ حديثِ آلِ إبراهيمَ فإن ذلك لتذكير ما بـين الفريقين من العلاقة الموجبةِ لاشتراكهما في استحقاق الفضلِ، والهمزةُ لإنكار الواقعِ واستقباحِه فإنهم كانوا يطمعون أن يكون النبـيُّ الموعودُ منهم فلما خصَّ الله تعالى بتلك الكرامةِ غيرَهم حسدوهم أي بل أيحسُدونهم { عَلَىٰ مَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } يعني النبوةَ والكتابَ وازديادَ العزِّ والنصرِ يوماً فيوماً، وقولُه تعالى: { فَقَدْ ءاتَيْنَا } تعليلٌ للإنكار والاستقباحِ وإلزامٌ لهم بما هو مُسلَّمٌ عندهم وحسمٌ لمادة حسَدِهم واستبعادِهم المبنيَّـيْن على توهّم عدمِ استحقاقِ المحسودِ لِما أوتيَ من الفضل ببـيان استحقاقِه له بطريق الوراثةِ كابراً عن كابر، وإجراءُ الكلامِ على سَنن الكبرياءِ بطريق الالتفاتِ لإظهار كمالِ العنايةِ بالأمر، والمعنى أن حسدَهم المذكورَ في غاية القبحِ والبُطلانِ فإنا قد آتينا من قبلِ هذا { آلَ إِبْرٰهِيمَ } الذين هم أسلافُ محمدٍ عليه الصلاة والسلام أو أبناءُ أعمامِه { ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ } أي النبوة { وَءاتَيْنَـٰهُمْ } مع ذلك { مُّلْكاً عَظِيماً } لا يقادَر قدرُه فكيف يستبعدون نبوتَه عليه الصلاة والسلام ويحسُدونه على إيتائها، وتكريرُ الإيتاءِ لما يقتضيه مقامُ التفضيلِ مع الإشعار بما بـين النبوةِ والمُلكِ من المغايرة، فإن أريد به الإيتاءُ بالذات فالمرادُ بآل إبراهيمَ أنبـياؤهم خاصة، والضميرُ المنصوبُ في الفعل الثاني لبعضهم إما بحذف المضافِ أو بطريق الاستخدامِ لما أن المُلكَ لم يُؤتَ كلَّهم.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: الملكُ في آل إبراهيمَ مُلكُ يوسفَ وداودَ وسليمانَ عليهم السلام إن أريد به ما يعُمّه وغيرَه من الإيتاء بالواسطةِ وهو اللائقُ بالمقام والأوفقُ لما قبله من نسبة إيتاءِ الفضلِ إلى الناس، فالمرادُ بآل إبراهيمَ كلُّهم فإن تشريفَ البعضِ بما ذُكر من إيتاء النبوةِ والمُلكِ تشريفٌ للكل لاعتنائهم بآثاره واقتباسِهم من أنواره، وفي تفصيل ما أُوتوه وتكريرِ الفعلِ ووصفِ المُلكِ بالعِظَم وتنكيرِه التفخيميِّ ــ مع تأكيد الإلزامِ وتشديدِ الإنكارِ ــ ما لا يخفى.

هذا هو المتبادرُ من النظم الكريمِ وإليه جنحَ جمهورُ أئمةِ التفسيرِ لكن الظاهرَ حينئذ أن يكون قولُه تعالى: { فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } حكايةً لما صدر عن أسلافهم عَقيبَ وقوعِ المحكيِّ من غير أن يكون له دخْلٌ في الإلزام الذي سيق له الكلامُ أي فمن جنس هؤلاءِ الحاسدين وآبائِهم مَن آمن بما أوتي آلُ إبراهيمَ ومنهم من أعرضَ عنه، وأما جعلُ الضميرين لما ذُكر من حديث آلِ إبراهيمَ فيستدعي تراخيَ الآيةِ الكريمةِ عما قبلها نزولاً، كيف لا وحكايةُ إيمانِهم لاحديث المذكورِ وإعراضِهم عنه بصيغة الماضي إنما يُتصوّر بعد وقوع الإيمانِ والإعراضِ المتأخِّرَين عن سماع الحديثِ المتأخرِ عن نزوله، وكذا جعلُهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذِ الظاهرُ بـيانُ حالِهم بعد هذا الإلزامِ.

السابقالتالي
2