الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱنظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلكَذِبَ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْماً مُّبِيناً } * { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً }

{ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ } { كَيْفَ } نُصب إما تشبـيهاً بالظرف أو بالحال على الخلاف المشهورِ بـين سيبويه والأخفشِ، والعاملُ يفترون وبه تتعلق { عَلَىٰ } أي في أي حالٍ، أو على أي حالٍ يفترون عليه تعالى الكَذِب، والمرادُ بـيان شناعةِ تلك الحالِ وكمالُ فظاعتِها، والجملةُ في محل النصبِ بعد نزعِ الخافض والنظرُ متعلقٌ بهما، وهو تعجيبٌ وتنبـيهٌ على أن ما ارتكبوه متضمِّنٌ لأمرين عظيمين موجبـين للتعجب: إدعاؤُهم الاتصافَ بما هم متّصفون بنقيضه، وافتراؤُهم على الله سبحانه. فإن ادعاءهم الزكاةَ عنده تعالى متضمِّنٌ لادعائهم قبولَ الله وارتضاءَه إياهم، تعالى عن ذلك علواً كبـيراً، ولكون هذا أشنعَ من الأول جُرماً وأعظمَ قبحاً لما فيه من نسبته سبحانه وتعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية من قَبول الكفرِ وارتضائِه لعباده ومغفرةِ كفرِ الكافرِ وسائرِ معاصيه، وُجِّه النظرُ إلى كيفيته تشديداً للتشنيع وتأكيداً للتعجيب. والتصريحُ بالكذب مع أن الافتراءَ لا يكون إلا كذباً للمبالغة في تقبـيح حالِهم.

{ وَكَفَىٰ بِهِ } أي بافترائهم هذا من حيث هو افتراءٌ عليه تعالى مع قطع النظرِ عن مقارنته لتزكية أنفسِهم وسائرِ آثامِهم العظامِ { إِثْماً مُّبِيناً } ظاهراً بـيّناً كونُه [أشدَّ] إثماً، والمعنى كفى ذلك وحدَه في كونهم أشدَّ إثماً من كل كَفارٍ أثيم، أو في استحقاقهم لأشدِّ العقوباتِ لما مر سرُّه، وجعلُ الضميرِ لزعمهم مما لا مساغَ له لإخلاله بتهويل أمرِ الافتراءِ فتدبرْ.

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } تعجبٌ من حال أخرى لهم، ووصفُهم بما ذكر من إيتاء النصيبِ لما مر من منافاته لما صدَر عنهم من القبائح، وقولُه عز وجل: { يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ } استئنافٌ مُبـينٌ لمادة التعجب مبنيٌّ على سؤال ينساق إليه الكلامُ كأنه قيل: ماذا يفعلون حين يُنظَر إليهم؟ فقيل: يؤمنون الخ، والجبتُ الأصنامُ وكلُّ ما عُبد من دون الله تعالى فقيل: أصلُه الجِبسُ وهو الذي لا خير عنده فأُبدل السنُ تاءً، وقيل: الجبتُ الساحرُ بلغة الحبشة، والطاغوتُ الشيطانُ، قيل: هو في الأصل كل ما يُطغي الإنسان. روي (أن حُيَـيَّ بنَ أخطبَ وكعبَ بنَ الأشرف اليهوديـين خرجا إلى مكةَ في سبعين راكباً من اليهود ليحالفوا قريشاً على محاربة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وينقُضوا العهدَ الذي كان بـينهم وبـينه عليه السلام فقالوا: أنتم أهلُ كتابٍ وأنتم أقربُ إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكرَكم فاسجُدوا لآلهتنا حتى نطمئنَّ إليكم ففعلوا) فهذا إيمانُهم بالجبت والطاغوتِ لأنهم سجَدوا للأصنام وأطاعوا إبليسَ فيما فعلوا، وقال أبو سفيانَ لكعبٍ: إنك امرُؤٌ تقرأ الكتابَ وتعلم، ونحن أُميون لا نعلم فأيُنا أهدى طريقاً نحن أم محمدٌ؟ فقال: ماذا يقول محمد؟ قال: يأمر بعبادة الله وحدَه وينهي عن الشرك، قال: وما دينُكم؟ قالوا: نحن ولاةُ البـيتِ نسقي الحاجَّ ونَقْري الضيفَ ونفُكّ العانيَ، وذكروا أفعالَهم فقال: أنتم أهدى سبـيلاً.

وذلك قولُه تعالى: { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي لأجلهم وفي حقّهم { هَـؤُلاء } يعنُونهم { أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } أي أقومُ ديناً وأرشدُ طريقةً، وإيرادُهم بعنوان الإيمانِ ليس من قِبلَ القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفاً لهم بالوصف الجميلِ وتخطئةً لمن رجّح عليهم المتصفين بأقبحِ القبائحِ.