الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً }

{ يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إما إلى من حُكِيتْ أحوالُهم وأقوالُهم خاصةً بطريق الالتفاتِ، ووصفُهم تارةً بإيتاء الكتابِ أي التوراةِ وأخرى بإيتاء نصيبٍ منها لتوفية كلَ من المقامَين حقَّه، فإن المقصودَ فيما سبق بـيانُ أخذِهم الضلالةَ وإزالةُ ما أُوتوه بمقابلتها بالتحريف، وليس ما أزالوه بذلك كلَّها حتى يوصَفوا بإيتائه، بل هو بعضُها فوُصِفوا بإيتائه، وأما هٰهنا فالمقصودُ تأكيدُ إيجابِ الامتثالِ بالأمر الذي يعقُبه والتحذيرُ عن مخالفته من حيث أن الإيمانَ بالمصدَّق موجِبٌ للإيمان بما يصدِّقه، والكفرَ بالثاني مقتضٍ للكفر بالأول قطعاً، ولا ريب في أن المحذورَ عندهم إنما هو لزومُ الكفرِ بالتوراة نفسِها لا ببعضها، وذلك إنما يتحقق بجعب القرآنِ مصدِّقاً لكلها وإن كان مناطُ التصديقِ بعضاً منها ضرورةَ أن مصدِّقَ البعضِ مصدَّقٌ للكل المتضمِّن له حتماً، وإما إليهم وإلى غيرهم قاطبةً وهو الأظهرُ، وأياً ما كان فتفصيلُ ما فُصّل لمّا كان من مظانّ إقلاعِ كل من الفريقين عما كانوا عليه من الضلالة عقّب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محَجّة الهدايةِ مشفوعاً بالوعيد الشديدِ على المخالفة فقال: { آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا } من القرآن، عبّر عنه بالموصولِ تشريفاً له بما في حيز الصلةِ وتحقيقاً لكونه من عنده عز وعلا { مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ } من التوراة، عبّر عنها بذلك للإيذان بكمالِ وقوفِهم على حقيقة الحالِ فإن المعيَّةَ المستدعِيةَ لدوام تلاوتِها وتكرُّر المراجعةِ إليها من موجبات العثور على ما في تضاعيفها المؤدّي إلى العلم بكون القرآنِ مصدِّقاً لها، ومعنى تصديقِه إياها نزولُه حسبما نُعِتَ لهم فيها أو كونُه موافقاً لها في القصص والمواعيدِ والدعوةِ إلى التوحيد والعدلِ بـين الناس والنهي عن المعاصي والفواحِشِ، وأما ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكامِ بسبب تفاوتِ الأممِ والأعصارِ فليست بمخالفة في الحقيقة بل هي عينُ الموافقة من حيث أن كلاًّ منها حقٌّ بالإضافة إلى عصره متضمِّنٌ للحكمة التي عليها يدور فَلَكُ التشريعِ حتى لو تأخر نزولُ المتقدِّم لنزل على وَفق المتأخِّرِ، ولو تقدم نزولُ المتأخرِ لوافق المتقدّمَ قطعاً، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " لو كان موسى حياً لما وسِعَه إلا اتّباعي " { مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } متعلقٌ بالأمر مفيدٌ للمسارعة إلى الامتثال به والجِدِّ في الانتهاء عن مخالفته بما فيه من الوعيد الشديدِ الواردِ على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه، حيث لم يعلَّقْ وقوعُ المتوعَّدِ به بالمخالفة ولم يصرَّحْ بوقوعه عندها تنبـيهاً على أن ذلك أمرٌ محقَّقٌ غنيٌّ عن الإخبار به وأنه على شرف الوقوعِ متوجِّهٌ نحوَ المخاطَبـين، وفي تنكير الوجوهِ المفيدِ للتكثير تهويلٌ للخطب وفي إبهامها لطفٌ بالمخاطَبـين وحسنُ استدعاءٍ لهم إلى الإيمان، وأصلُ الطمسِ محوُ الآثارِ وإزالةُ الأعلام، أي آمنوا من قبل أن نمحُوَ تخطيطَ صورِها ونزيلَ آثارَها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: نجعلها كخُفّ البعيرِ أو كحافر الدابةِ، وقال قتادة والضحاك: نُعْميها كقوله تعالى: { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } [القمر، الآية 37] وقيل: نجعلها منابتَ الشعرِ كوجوه القِردة.

السابقالتالي
2 3