الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً } * { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }

{ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ } أي منكم { بِأَعْدَائِكُمْ } جميعاً ومن جملتهم هؤلاءِ وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون بكم لتكونوا على حذر منهم ومن مخالطتهم أو هو أعلمُ بحالهم ومآلِ أمرِهم، والجملةُ معترضةٌ لتقرير إرادتِهم المذكورةِ { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً } في جميع أمورِكم ومصالِحِكم { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً } في كل المواطنِ فثِقوا به واكتفُوا بولايته ونُصرتِه ولا تتولَّوْا غيرَه، أو لا تُبالوا بهم وبما يسومونَكم من السوء فإنه تعالى يكفيكم مكرَهم وشرَّهم ففيه وعدٌ ووعيدٌ، والباءُ مزيدةٌ في فاعل كفَى لتأكيد الاتصالِ الإسناديِّ بالاتصال الإضافيِّ، وتكريرُ الفعلِ في الجملتين مع إظهار الجلالةِ في مقام الإضمارِ لا سيما في الثاني لتقوية استقلالِهما المناسبِ للاعتراض، وتأكيدِ كفايتِه عز وجل في كلَ من الولاية والنُّصرةِ والإشعارِ بعلّيتهما، فإن الألوهية من موجباتهما لا محالة { مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } قيل: هو بـيانٌ لأعدائكم وما بـينهما اعتراضٌ، وفيه أنه لا وجهَ لتخصيص علمِه سبحانه بطائفة من أعدائهم لا سيما في معرِض الاعتراضِ الذي حقُّه العمومُ والإطلاقُ وانتظامُ ما هو المقصودُ في المقام انتظاماً أولياً كما أشير إليه، وقيل: هو صلةٌ لنصيراً أي ينصرُكم من الذين هادوا كما في قوله تعالى:فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ ٱللَّهِ } [هود، الآية 63] وفيه ما فيه من تحجير واسعِ نُصرتِه عز وجل مع أنه لا داعيَ إلى وضع الموصولِ موضِعَ ضميرِ الأعداءِ لأن ما في حيز الصلةِ ليس بوصفٍ ملائمٍ للنصر، وقيل: هو خبرُ مبتدإٍ محذوف وقع وقوله تعالى: { يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوٰضِعِهِ } صفةٌ له أي من الذين هادوا قومٌ أو فريق يحرفون الخ، وفيه أنه يقتضي كونَ الفريقِ السابقِ بمعزل من التحريف الذي هو المصداقُ لاشترائهم في الحقيقة، فالذي يليق بشأن التنزيلِ الجليلِ أنه بـيانٌ للموصول الأولِ المتناولِ بحسب المفهومِ لأهل الكتابـين قد وُسِّط بـينهما ما وسط لمزيد الاعتناءِ ببـيان محلِّ التشنيعِ والتعجيبِ والمسارعةِ إلى تنفير المؤمنين منهم وتحذيرِهم عن مخالطتهم والاهتمامِ بحملهم على الثقة بالله عز وجل، والاكتفاءِ بولايته ونُصرتِه، وأن قولَه تعالى: { يُحَرّفُونَ } وما عُطف عليه بـيانٌ لاشترائهم المذكورِ وتفصيلٌ لفنون ضلالتِهم، وقد رُوعيت في النظم الكريمِ طريقةُ التفسير بعد الإبهامِ والتفصيلِ إثرَ الإجمالِ رَوْماً لزيادة تقريرٍ يقتضيه الحالُ.

والكَلِمُ اسمُ جنسٍ واحدُه كلِمةٌ كتَمْر وتمرة، وتذكيرُ ضميرِه باعتبار إفرادِه لفظاً، وجمعيةُ مواضعِه باعتبار تعدُّدِه معنى، وقرىء بكسر الكاف وسكون اللام جمع كِلْمة تخفيف كَلِمة وقرىء يحرِّفون الكلامَ والمرادُ به هٰهنا إما ما في التوراة خاصةً وإما ما هو أعمُّ منه ومما سيُحكىٰ عنهم من الكلمات المعهودةِ الصادرةِ عنهم في أثناء المحاروةِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مساغَ لإرادة تلك الكلماتِ خاصة بأن يُجعلَ عطفُ قولِه تعالى: { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } الخ، على ما قبله عطفاً تفسيرياً لما ستقف على سره، فإن أريد به الأولُ كما هو رأيُ الجمهورِ فتحريفُه إزالتُه عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم في نعت النبـيِّ عليه السلام (أسمرُ رَبعةٌ) عن موضعه في التوراة بأن وضعوا مكانه آدمُ طُوالٌ وكتحريفهم الرجمَ بوضعهم بدله الحدَّ أو صرفِه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى ما لا صِحةَ له بالتأويلات الزائغةِ الملائمةِ لشهواتهم الباطلةِ، وإن أُريد به الثاني فلا بد من أن يُرادَ بمواضعه ما يليق به مطلقاً سواءٌ كان ذلك بتعيـينه تعالى صريحاً كمواضِعِ ما في التوراة، أو بتعيـين العقلِ أو الدين كمواضعِ غيرِه، وأياً ما كان فقولُهم: { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } ينبغي أن يجريَ على إطلاقه من غير تقيـيدٍ بزمان أو مكانٍ ولا تخصيصٍ بمادة دون مادةٍ، بل وأن يُحمَلَ على ما هو أعمُّ من القول الحقيقيِّ ومما يُترجِم عنه عِنادُهم ومكابَرتُهم ليندرجَ فيه ما نَطقَتْ به ألسنةُ حالِهم عند تحريفِ التوراةِ فإن من لا يتفوّه بتلك العظيمةِ لا يكاد يتجاسرُ على مثل هذه الجنايةُ، وإلا فحملُه على ما قالوه في مجلس النبـيِّ صلى الله عليه وسلم من القبائح خاصةً يستدعي اختصاصَ حُكمِ الشرطيةِ الآتيةِ وما بعدها بهن من غير تعرُّضٍ لتحريفهم التوراةَ مع أنه معظمُ جناياتِهم المعدودةِ، ومن هٰهنا انكشف لك السرُّ الموعودُ فتأمل.

السابقالتالي
2 3