الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً }

{ يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } لما نُهوا فيما سلف عن الإشراك به تعالى نُهوا هٰهنا عما يؤدِّي إليه من حيث لا يحتسبون فإنه (روى أن عبدَ الرحمٰن بنَ عوفٍ رضي الله عنه صنع طعاماً وشراباً حين كانت الخمرُ مباحةً فدعا نفراً من الصحابة رضي الله عنهم فأكلوا وشربوا حتى ثمِلوا وجاء وقتُ صلاةِ المغربِ فتقدم أحدُهم ليصليَ بهم فقرأ أعبُدُ ما تعبدون فنزلت). وتصديرُ الكلامِ بحرفَي النداءِ والتنبـيهِ للمبالغة في حملهم على العمل بموجب النهي وتوجيهُ النهي إلى قُرب الصلاةِ مع أن المرادَ هو النهيُ عن إقامتها للمبالغة في ذلك، وقيل: المرادُ النهيُ عن قُربان المساجدِ لقوله عليه السلام: " جنِّبوا مساجدَكم صِبـيانَكم ومجانينَكم " ويأباه قوله تعالى: { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [النساء، الآية: 43] فالمعنى لا تُقيموها في حالة السُكرِ حتى تعلموا قبل الشروعِ ما تقولونه، إذْ بتلك التجرِبةِ يظهر أنهم يعلمون ما سيقرؤونه في الصلاة. وحملُ ما تقولون على ما في الصلاة يستدعي تقدُّمَ الشروعِ فيها على غاية النهي، وحملُ العلمِ على ما بالقوة على معنى حتى تكونوا بحيث تعلمون ما ستقرؤونه في الصلاة تطويلٌ بلا طائل لأن تلك الحيثيةِ إنما تظهرُ بما ذُكر من التجربة، على أن إيثارَ ما تقولون على ما تقرؤون حينئذ يكون عارياً عن الداعي، وقيل: المرادُ بالسكر سُكرُ النعاسِ وغلبةُ النوم، وأياً ما كان فليس مرجِعُ النهي هو المقيدُ مع بقاء القيدِ مُرخصاً بحاله بل إنما هو القيدُ مع بقاء المقيدِ على حالهإِنَّ ٱلصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [النساء، الآية 103] كأنه قيل: يا أيها الذين آمنوا لا تسْكَروا في أوقات الصلاة، وقد روي أنهم كانوا بعد ما نزلت الآيةُ لا يشربون الخمرَ في أوقات الصلاة فإذا صلَّوُا العِشاءَ شرِبوها فلا يُصْبحون إلا وقد ذهب عنهم السكرُ وعلموا ما يقولون.

{ وَلاَ جُنُباً } عطفٌ على قوله تعالى:وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ } [النساء، الآية: 47] فإنه في حيز النصبِ كأنه قيل: لا تقرَبوا الصلاةَ سكارى ولا جنباً والجنبُ من أصابه الجنابةُ يستوي فيه المذكرُ والمؤنثُ والواحدُ والجمع لجَرَيانه مَجرىٰ المصدر { إِلاَّ عَابِرِى سبِيلِ } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوالِ محلُّه النصبُ على أنه حالٌ من ضمير لا تقربوا باعتبار تقيُّدِه بالحال الثانيةِ دون الأولى، والعاملُ فيه فعلُ النهي أي لا تقربوا الصلاةَ جُنباً في حال من الأحوال إلا حالَ كونِكم مسافرين على معنى أن في حالة السفرِ ينتهي حكمُ النهي لكن لا بطريق شمولِ النفْي لجميع صورِها بل بطريق نفي الشمّولِ في الجملة من غير دَلالةٍ على انتفاء خصوصيةِ البعضِ المنتفي ولا على بقاء خصوصيةِ البعضِ الباقي ولا على ثبوت نقيضِه لا كلياً ولا جزئياً، فإن الاستثناءَ لا يدل على ذلك عبارةً.

السابقالتالي
2 3