الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً } * { وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } * { لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً }

{ فَبِظُلْمٍ مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } لعل ذكرَهم بهذا العنوانِ للإيذان بكمالِ عِظَمِ ظلمهم بتذكير وقوعِه بعد ما هادُوا أي تابوا من عبادة العجلِ مثلَ تلك التوبةِ الهائلةِ المشروطةِ ببخْع النفوسِ إثرَ بـيانِ عِظَمِه في حد ذاتِه بالتنوين التفخيميِّ، أي بسبب ظلمٍ عظيمٍ خارجٍ عن حدود الأشباهِ والأشكالِ صادرٍ عنهم { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَـٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } ولِمن قبلَهم لا بشيء غيرِه كما زعموا فإنهم كانوا كلما ارتكبوا معصيةً من المعاصي التي اقترفوها يُحرَّم عليهم نوعٌ من الطيبات التي كانت محلَّلةً لهم ولمن تقدّمهم من أسلافهم عُقوبةً لهم، وكانوا مع ذلك يفترون على الله سبحانه [الكذب] ويقولون: لسنا بأولِ مَنْ حُرّمت عليه وإنما كانت محرمةً على نوح وإبراهيمَ ومَنْ بعدهم حتى انتهى الأمرُ إلينا فكذبهم الله عز وجل في مواقعَ كثيرةٍ وبكّتهم بقوله تعالى:كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لّبَنِى إِسْرٰءيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرٰءيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوْرَاةُ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } [آل عمران، الآية 93] أي في ادعائكم أنه تحريم قديم. روي أنه عليه السلام لما كلفهم إخراجَ التوراةِ لم يجسُرْ أحدٌ على إخراجها لِما أن كونَ التحريمِ بظلمهم كان مسطوراً فيها فبُهتوا وانقلبوا صاغرين { وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً } أي ناساً كثيراً أو صداً كثيراً { وَأَخْذِهِمُ ٱلرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } فإن الربا كان محرَّماً عليهم كما هو محرَّمٌ علينا، وفيه دليلٌ على أن النهيَ يدل على حرمة المنهيِّ عنه { وَأَكْلِهِمْ أَمْوٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَـٰطِلِ } بالرّشوة وسائرِ الوجوهِ المحرَّمةِ { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ مِنْهُمْ } أي للمُصِرِّين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بـينهم { عَذَاباً أَلِيماً } سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في الدنيا عقوبةَ التحريم.

{ لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ } استدراكٌ من قوله تعالى: { وَأَعْتَدْنَا } الخ، وبـيانٌ لكون بعضِهم على خلاف حالِهم عاجلاً وآجلاً أي لكن الثابتون في العلم منهم المُتقِنون المستبصِرون فيه غيرُ التابعين للظن كأولئك الجَهَلة والمرادُ بهم عبدُ اللَّهِ بنُ سلام وأصحابُه { وَٱلْمُؤْمِنُونَ } أي منهم وُصفوا بالإيمان بعدما وُصِفوا بما يوجبُه من الرسوخ في العلم بطريق العطفِ المنبىءِ عن المغايرة بـين المعطوفَين تنزيلاً للاختلاف العنواني منزلةَ الاختلافِ الذاتي، وقوله تعالى: { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } حالٌ من المؤمنين مبـيِّنةٌ لكيفية إيمانِهم، وقيل: اعتراضٌ مؤكدٌ لما قبله، وقوله عز وجل: { وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَ } قيل: نُصب بإضمار فعلٍ تقديرُه وأعني المقيمين الصلاةَ على أن الجملةَ معترضةٌ بـين المبتدأ والخبر، وقيل: هو عطفٌ على ما أُنزل إليك على أن المرادَ بهم الأنبـياءُ عليهم السلام أي يؤمنون بالكتب وبالأنبـياء أو الملائكة. قال مكي: أي ويؤمنون بالملائكة الذين صِفتُهم إقامةُ الصلاةِ لقوله تعالى:يُسَبّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ }

السابقالتالي
2