الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ هَٰأَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فَمَن يُجَٰدِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } * { وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } * { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } * { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيۤئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً }

{ هأَنتُمْ هَـٰؤُلاء } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إليهم بطريق الالتفاتِ إيذاناً بأن تعديد جناياتِهم يوجب مشافهتَهم بالتوبـيخ والتقريعِ والجملةُ مبتدأٌ وخبرٌ وقوله تعالى: { جَـٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } جملةٌ مبـيِّنةٌ لوقوع أولاءِ خبراً ويجوز أن يكون أولاءِ اسماً موصولاً بمعنى الذين وجادلتم الخ صلة له، والمجادَلةُ أشدُّ المخاصَمَة، والمعنى هَبُوا أنكم خاصمتم عن طُعمةَ وأمثالِه في الدنيا { فَمَن يُجَـٰدِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } فمن يخاصم عنهم يومئذ عند تعذيبهم وعقابِهم { أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } حافظاً ومحامياً من بأس الله تعالى وانتقامه.

{ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً } قبـيحاً ليَسوءَ به غيره كما فعلَ طُعمة بقتادةَ واليهوديِّ { أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } بما يختص به كالحلِف الكاذبِ، وقيل: السوءُ ما دون الشركِ، وقيل: هما الصغيرةُ والكبـيرة { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ } بالتوبة الصادقة { يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً } لذنوبه كائنةً ما كانت { رَّحِيماً } متفضّلاً عليه. وفيه مزيدُ ترغيبٍ لطعمةَ وقومِه في التوبة والاستغفارِ لما أن مشاهَدةَ التائبِ لآثار المغفرةِ والرحمةِ نعمةٌ زائدةٌ كما مر.

{ وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً } من الآثام { فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } حيث لا يتعدّى ضررُه ووبالُه إلى غيره فليحترز عن تعريضها للعقاب والعذابِ عاجلاً وآجلاً { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً } مبالغاً في العلم { حَكِيماً } مراعياً للحكمة في كل ما قَدَّر وقضى، ولذلك لا تَحمِلُ وازِرَةٌ وزرَ أخرى { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً } صغيرة أو ما لا عمْدَ فيه من الذنوب وقرىء ومن يَكِسِّبْ بكسر الكاف وتشديد السين وأصله يكتسب { أَوْ إِثْماً } كبـيرةً أو ما كان عن عمد { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ } أي يقذِفْ به ويُسنده [إليه]، وتوحيدُ الضميرِ مع تعدد المرجِعِ لمكان { أَوْ } وتذكيره لتغليب الإثم على الخطيئة كأنه قيل: ثم يرم بأحدهما، وقرىء يرمِ بهما، وقيل: الضمير للكسبِ المدلولِ عليه بقوله تعالى: { يَكْسِبْ } ، وثم للتراخي في الرتبة { بَرِيئاً } أي مما رماه به ليُحمِّلَه عقوبتَه العاجلةَ كما فعله طعمةُ بزيدٍ { فَقَدِ ٱحْتَمَلَ } أي بما فعل من تحميل جريرتِه على البريء { بُهْتَـٰناً } وهو الكذِبُ على الغير بما يُبَهتُ منه ويُتَحيَّر عند سَماعِه لفظاعته وهولِه، وقيل: هو الكذبُ الذي يُتحيَّر في عِظَمه { وَإِثْماً مُّبِيناً } أي بـيناً فاحشاً وهو صفة لإثماً وقد اكتُفي في بـيان عِظَمِ البهتانِ بالتنكير التفخيميّ كأنه قيل: بهتاناً لا يقادَرُ قدرُه وإثماً مبـيناً على أن وصفَ الإثمِ بما ذُكر بمنزلة وصفِ البهتانِ به لأنهما عبارةٌ عن أمر واحد هو رميُ البريءِ بجناية نفسِه، قد عبّر عنه بهما تهويلاً لأمره وتفظيعاً لحاله، فمدارُ العِظَم والفخامةِ كونُ المرميِّ به للرامي فإن رميَ البريءِ بجناية ما ــ خطيئةً كانت أو إثماً ــ بهتانٌ وإثمٌ في نفسه، أما كونُه بهتاناً فظاهرٌ وأما كونُه إثماً فلأن كونَ الذنبِ بالنسبة إلى مَنْ فعله خطيئةً لا يلزم منه كونُه بالنسبة إلى مَنْ نسبه إلى البريءِ منه أيضاً كذلك بل لا يجوزُ ذلك قطعاً، كيف لا وهو كذِبٌ محرَّمٌ في جميع الأديانِ فهو في نفسه بهتانٌ وإثمٌ لا محالةَ وبكون تلك الجنايةِ للرامي يتضاعفُ ذلك شدةً ويزداد قُبحاً لكنْ لا لانضمام جنايتِه المكسوبةِ إلى رمي البريءِ وإلا لكان الرميُ بغير جنايةٍ مع تبرئةِ نفسِه كذلك في العِظَم، بل لاشتماله على قصد تحميلِ جنايتِه على البريء وإجراءِ عقوبتِها عليه كما يُنبىءُ عنه إيثارُ الاحتمالِ على الاكتساب ونحوِه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديرِه مع ما فيه من الإشعار بثِقَل الوِزرِ وصعوبةِ الأمرِ.

السابقالتالي
2