الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } * { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً }

{ وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى ٱلأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً } ترغيبٌ في المهاجَرَة وتأنيسٌ لها أي يجدْ فيها متحوَّلاً ومهاجَراً وإنما عبّر عنه بذلك تأكيداً للترغيب لما فيه من الإشعار بكون ذلك المتحوَّلِ بحيث يصل فيه المهاجرُ من الخير والنعمةِ إلى ما يكون سبباً لرغم أنفِ قومِه الذين هاجرهم، والرُّغمُ الذلُّ والهوانُ وأصلُه لصوقُ الأنفِ بالرَّغام وهو التراب، وقيل: يجد فيها طريقاً يراغِمُ بسلوكه قومَه أي يفارقهم على رَغم أنوفِهم { وَسَعَةً } أي من الرزق { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَـٰجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ } أي قبل أن يصل إلى المقصِد وإن كان ذلك خراجَ بابِه كما ينبىء عنه إيثارُ الخروجِ من بـيته على المهاجَرة، وهو عطفٌ على فعل الشرطِ وقرىء بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ، وقيل: هو حركةُ الهاءِ نُقلت إلى الكاف على نية الوقفِ، كما في قوله: [الرجز]
من عَنَزِيٍّ سبَّني لم أضرِبُه   عجبتُ والدهرُ كثيرٌ عجبُهْ
وقرىء بالنصب على إضمار أنْ كما في قوله: [الوافر]
[سأترك منزلي لبني تميم]   وألحقُ بالحجاز فأستريحا
{ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ } أي ثبت ذلك عنده تعالى ثبوتَ الأمرِ الواجبِ. روي (أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما بَعَث بالآيات المتقدمةِ إلى مسلمي مكةَ قال جُندُبُ بنُ ضَمْرةَ لبنيه وكان شيخاً كبـيراً: احمِلوني فإني لستُ من المستضعفين وإني لأهتدي الطريقَ والله لا أبـيتُ الليلةَ بمكةَ فحمَلوه على سرير متوجِّهاً إلى المدينة فلما بلغ التنعيمَ أشرفَ على الموت فصفق بـيمينه على شماله ثم قال: اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايُعك على ما بايعك رسولُك فمات حميداً فبلغ خبرُه أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لو تُوفيَ بالمدينة لكان أتمَّ أجراً فنزلت. قالوا: كلُّ هجرةٍ في غرض دينيَ من طلبِ علمٍ أو حجَ أو جهادٍ أو نحو ذلك فهي هجرةٌ إلى الله عز وجل وإلى رسوله عليه الصلاة والسلام.

{ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً } مبالِغاً في المغفرة فيغفرُ له ما فَرَط منه من الذنوب التي من جملتها القعودُ عن الهجرة إلى وقت الخروجِ { رَّحِيماً } مبالِغاً في الرحمة فيرحَمُه بإتمام ثوابِ هجرتِه.

{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلأَرْضِ } شروعٌ في بـيان كيفيةِ الصلاةِ عند الضروراتِ من السفر ولقاءِ العدوِّ والمرضِ والمطرِ، وفيه تأكيدٌ لعزيمة المهاجِرِ على المهاجَرة وترغيبٌ له فيها لما فيه من تخفيف المؤنةِ، أي إذا سافرتم أيَّ مسافرةٍ كانت ولذلك لم يُقيَّد بما قُيِّد به المهاجَرة { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي لا حرجَ [ولا] مأثمَ { أَن تَقْصُرُواْ } أي في أن تقصُروا، والقصرُ خلافُ المدِّ يقال: قصَرْت الشيءَ أي جعلته قصيراً بحذف بعضِ أجزائِه أو أوصافِه، فمُتعلَّقُ القصرِ حقيقةً إنما هو ذلك الشيءُ لا بعضُه فإنه متعلَّقُ الحذفِ دون القصرِ وعلى هذا فقوله تعالى: { مِنَ ٱلصَّلوٰةِ } ينبغي أن يكون مفعولاً لتقصُروا على زيادة مِنْ حسبما رآه الأخفش، وأما على تقدير أن تكون تبعيضيةً ويكونَ المفعولُ محذوفاً كما هو رأيُ سيبويهِ أي شيئاً من الصلاة فينبغي أن يُصارَ إلى وصف الجزءِ بصفة الكلِّ أو يرادَ بالقصر معنى الحبْس، يقال: قصَرتُ الشيءَ إذا حبستْه أو يرادَ بالصلاة الجنسُ ليكون المقصورُ بعضاً منها وهي الرُّباعياتُ، أي فليس عليكم جُناحٌ في أن تقصروا بعضَ الصلاةِ بتنصيفها، وقرىء تُقْصِروا من الإقصار وتُقَصِّروا من التقصير، والكل بمعنى.

السابقالتالي
2 3