الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }

{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم }



سورة النساء مدنية وهي مائة وست وسبعون آية

{ يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ } خطابٌ يعمُّ حكمُه جميعَ المكلفين عند النزولِ ومَنْ سينتظِمُ في سلكهم من الموجودين حينئذٍ والحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامةِ عند انتظامِهم فيه لكنْ لا بطريق الحقيقةِ فإن خطابَ المشافهةِ لا يتناول القاصرين عن درجة التكليفِ إلا عند الحنابلةِ بل إما بطريق تغليبِ الفريقِ الأولِ على الأخيرين وإما بطريق تعميمِ حُكمِه لهما بدليل خارجيَ فإن الإجماعَ منعقدٌ على أن آخِرَ الأمةِ مكلفٌ بما كُلّف به أولُها كما ينبىء عنه قولُه عليه السلام: " الحلالُ ما جرى على لساني إلى يوم القيامةِ والحرامُ ما جرى على لساني إلى يوم القيامة " وقد فُصل في موضعه وأما الأممُ الدارجةُ قبل النزولِ فلا حظَّ لهم في الخطاب لاختصاص الأوامرِ والنواهي بمن يُتصوَّر منه الامتثالُ، وأما اندراجُهم في خطاب ما عداهما مما له دخلٌ في تأكيد التكليفِ وتقويةِ الإيجابِ فستعرِفُ حالَه، ولفظُ النَّاسِ ينتظمُ الذكورَ والإناثَ حقيقةً، وأما صيغةُ جمعِ المذكرِ في قوله تعالى: { ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ } فواردةٌ على طريقة التغليب لعدم تناولِها حقيقةً للإناث عند غيرِ الحنابلة، وأما إدخالهن في الأمر بالتقوى بما ذُكر من الدليل الخارجيِّ وإن كان فيه مراعاةُ جانبِ الصيغةِ لكنه يستدعي تخصيصَ لفظِ النَّاسِ ببعض أفرادِه. والمأمورُ به إما مطلقُ التقوى التي هي التجنبُ عن كل ما يؤثِمُ من فعلٍ أو تركٍ وإما التقوى فيما يتعلق بحقوق أبناءِ الجنسِ أي اتقوه في مخالفة أوامره ونواهيه على الإطلاق أو في مخالفة تكاليفه الواردةِ هٰهنا.

وأيًّا ما كان فالتعرضُ لعنوان الربوبـيةِ المنبئةِ عن المالكية والتربـيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطبـين لتأيـيد الأمرِ وتأكيدِ إيجابِ الامتثالِ به على طريقة الترغيبِ والترهيبِ، وكذا وصفُ الرب بقوله تعالى: { ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ } فإن خلْقَه تعالى إياهم على هذا النمطِ البديعِ لإنبائه عن قدرة شاملةٍ لجميع المقدوراتِ التي من جُملتها عقابُهم على معاصيهم وعن نعمة كاملةٍ لأقدارها ــ من أقوى الدواعي إلى الاتقاء من موجبات نقمتهِ وأتمِّ الزواجرِ عن كُفران نعمته، وكذا جعلُه تعالى إياهم صِنواناً مُفرَّعةً من أرومةٍ واحدة هي نفسُ آدمَ عليه السلام من موجبات الاحترازِ عن الإخلال بمراعاة ما بـينهم من حقوق الأخوةِ. وتعميمُ الخطابِ في ربّكم وخلقَكم للأمم السالفة أيضاً ــ مع اختصاصه فيما قبلُ بالمأمورين بناءً على أن تذكيرَ شمولِ ربوبـيته تعالى وخلقِه للكل من مؤكِّدات الأمرِ بالتقوى وموجباتِ الامتثالِ به ــ تفكيك للنظم الكريمِ مع الاستغناء عنه، لأن خلقَه تعالى للمأمورين من نفس آدم عليه السلام حيث كان بواسطة ما بـينهم وبـينه عليه السلام من الآباء والأمهاتِ كان التعرّضُ لخلقهم متضمِّناً للتعرّض لخلق الوسايطِ جميعاً، وكذا التعرضُ لربوبـيته تعالى لهم متضمِّنٌ للتعرض لربوبـيته تعالى لأصولهم قاطبةً لا سيما وقد نطقَ بذلك قوله عز وجل: { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } فإنه مع ما عُطف عليه صريحٌ في ذلك وهو معطوفٌ إما على مقدر ينبىءُ عنه سَوقُ الكلامِ لأن تفريغَ الفروعِ من أصل واحد يستدعي إنشاءَ ذلك الأصلِ لا محالة، كأنه قيل خلقكم من نفس واحدةٍ خلقها أولاً وخلق منها زوجَها إلخ وهو استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير وَحدةِ المبدأ وبـيانِ كيفيةِ خلْقِهم منه وتفصيلِ ما أُجمل أولاً، أو صفةٌ لنفسٍ مفيدةٌ لذلك، وإما على خلقَكم داخلٌ معه في حيز الصلةِ مقررٌ ومبـينٌ لما ذكر، وإعادةُ الفعلِ مع جواز عطفِ مفعوله على مفعول الفعلِ الأول كما في قوله تعالى: { يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة، الآية 21] الخ لإظهار ما بـين الخلقين من التفاوت، فإن الأولَ بطريق التفريعِ من الأصل والثاني بطريق الإنشاءِ من المادة، فإنه تعالى خلقَ حواءَ من ضِلْعِ آدمَ عليه السلام.

السابقالتالي
2 3