الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ ٱلْمِيعَادَ } * { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }

{ لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ } وهم الذين خُوطبوا بقوله تعالى:يَا عِبَادِ فَٱتَّقُونِ } [سورة الزمر: الآية 16] ووُصفوا بما عُدِّد من الصِّفاتِ الفاضلةِ وهم المخاطَبون أيضاً فيما سبق بقوله تعالى:يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ } [سورة الزمر: الآية 10] الآيةَ وبـينَّ أنَّ لهم درجاتٍ عاليةً في جنَّاتِ النَّعيمِ بمقابلة ما للكفرةِ من دَرَكاتٍ سافلةٍ في الجحيم أي لهم علالي بعضُها فوقَ بعضٍ { مَّبْنِيَّةٌ } بناءَ المنازلِ المبنية المؤسَّسةِ على الأرضِ في الرَّصانةِ والإحكام { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا } من تحت تلك الغرفِ { ٱلأَنْهَـٰرَ } من غيرِ تفاوتٍ بـين العُلوِّ والسُّفلِ { وَعَدَ ٱللَّهُ } مصدرٌ مؤكّدٌ لقولِه تعالى لهم غُرف الخ فإنه وعدٌ وأيُّ وعدٍ { لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ ٱلْمِيعَادَ } لاستحالتِه عليه سبحانه.

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء } استئنافٌ وارد إمَّا لتمثيلِ الحياةِ الدُّنيا في سرعة الزَّوالِ وقُرب الاضمحلالِ بما ذكر من أحوالِ الزَّرعِ ترغيباً عن زخارِفها وزينتها وتحذيراً من الاغترارِ بزَهرتِها كما في نظائر قوله تعالى:إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } [سورة يونس: الآية 24] الآيةَ أو للاستشهاد على تحقُّقِ الموعودِ من الأنهارِ الجاريةِ من تحت الغُرفِ بما يُشاهد من إنزالِ الماءِ من السَّماءِ وما يترتَّبُ عليه من آثارِ قدرتهِ تعالى وأحكامِ حكمتِه ورحمتِه والمرادُ بالماءِ المطر. وقيل: كلُّ ماءٍ في الأرضِ فهو من السَّماءِ ينزلُ إلى الصَّخرةِ ثم يقسمُه الله تعالى بـين البقاعِ { فَسَلَكَهُ } فأدخلَه ونظمه { يَنَابِيعَ فِى ٱلأَرْضِ } أي عُيوناً ومجاريَ كالعروقِ في الأجسادِ وقيل: مياهاً نابعةً فيها فإنَّ الينبوعَ يطلقُ على المنبعِ والنَّابعِ فنصبها على الحالِ وعلى الأوَّلِ بنزعِ الجارِّ أي في ينابـيعَ { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } أصنافُه من بُرَ وشعيرٍ وغيرهِما أو كيفياته من الألوانِ والطُّعومِ وغيرِهما وكلمة ثمَّ للتَّراخي في الرُّتبةِ أو الزَّمانِ. وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورةِ { ثُمَّ يَهِـيجُ } أي يتمُّ جفافُه ويشرف على أنْ يثورَ من منابتِه { فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً } من بعد خُضرتِه ونُضرتِه وقُرىء مُصفارَّا { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَـٰماً } فُتاتاً مُتكسِّرةً كأن لم يغنَ بالأمسِ ولكون هذه الحالةِ من الآثارِ القوَّيةِ عُلِّقت بجعلِ الله تعالى كالإخراجِ { إِنَّ فِى ذَلِكَ } إشارةٌ إلى ما ذُكر تفصيلاً، وما فيه من مَعنى البُعدِ للإيذانِ ببُعد منزلتِه في الغَرابةِ والدِّلالةِ على ما قُصد بـيانُه { لِذِكْرِى } لتذكيراً عظيماً { لأُوْلِي ٱلأَلْبَـٰبِ } لأصحابِ العُقول الخالصةِ عن شوائبِ الخللِ وتنبـيهاً لهم على حقيقةِ الحالِ يتذكَّرون بذلك أنَّ حالَ الحياةِ الدُّنيا في سُرعةِ التَّقصِّي والانصرامِ كما يشاهدونَهُ من حال الحُطامِ كلَّ عامٍ فلا يغترُّون ببهجتِها ولا يُفتتنون بفتنتها أو يجزمون بأنَّ مَن قدرَ على إنزالِ الماءِ من السَّماءِ وإجرائِه في ينابـيع الأرضِ قادرٌ على إجراءِ الأنهارِ من تحتِ الغُرفِ، هذا وأمَّا ما قيلَ إنَّ في ذلك لتذكيراً وتنبـيهاً على أنَّه لا بُدَّ من صانعٍ حكيمٍ وأنه كائنٌ عن تقديرٍ وتدبـيرٍ لا عن تعطيلٍ وإهمالٍ فبمعزلٍ من تفسيرِ الآيةِ الكريمةِ وإنَّما يليقُ ذلك بما لو ذُكرَ ما ذُكر من الآثارِ الجليلة والأفعالِ الجميلةِ من غيرِ إسنادٍ لها إلى مؤثِّرٍ ما فحيثُ ذُكرتْ مسندةً إلى الله عزَّ وجلَّ تعيَّن أنْ يكونَ متعلَّقُ التَّذكيرِ والتَّنبـيهِ شؤونه تعالى أو شؤونَ آثارِه حسبما بُـيِّن لا وجودُه تعالى.