الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } * { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } * { فَقَالَ إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ }

{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَـٰنَ نِعْمَ ٱلْعَبْدُ } وقُرىء نعم العبدُ أي سليمانُ كما ينبىءُ عنه تأخيرُه عن داودَ مع كونِه مفعولاً صريحاً لوهبنا ولأنَّ قوله تعالى: { إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي رجَّاع إلى الله تعالى بالتَّوبة أو إلى التَّسبـيح مرجع له تعليلٌ للمدح وهو من حاله لما أنَّ الضَّميرَ المجرورَ في قوله تعالى: { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ } راجع إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قطعاً وإذْ منصوبٌ باذكُر أي اذكُر ما صدرَ عنه إذْ عُرضَ عليه { بِٱلْعَشِيّ } هو من الظُّهرِ إلى آخرِ النَّهارِ { ٱلصَّـٰفِنَـٰتُ } فإنَّه يشهدُ بأنَّه أوَّاب وقيل: لنعِم وتأخيرُ الصَّافنات عن الظَّرفينِ لما مرَّ مراراً من التَّشويقِ إلى المؤخَّرِ. والصَّافنُ من الخيلِ: الذي يقومُ على طَرَفِ سُنبكِ يدٍ أو رجلٍ، وهو من الصِّفاتِ المحمودةِ في الخيلِ لا يكادُ يتَّفقُ إلا في العِراب الخُلَّصِ، وقيل: هو الذي يجمعُ يديهِ ويسوِّيهما. وأمَّا الذي يقفُ على سنبكهِ فهو المنخيم { ٱلْجِيَادُ } جمعُ جوادٍ وجودٍ وهو الذي يُسرع في جريِه وقيل: الذي يجودُ عند الرَّكضِ، وقيل: وُصفتْ بالصُّفون والجَودةِ لبـيان جمعها بـين الوصفينِ المحمودينِ واقفةً وجاريةً أي إذا وقفتْ كانتْ ساكنةً مطمئنة في مواقفها وإذا جرتْ كانت سِراعاً خِفافاً في جَريها. وقيل: هو جمعُ جيِّد. رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسلام غَزَا أهلَ دمشقَ ونصيبـين وأصابَ ألفَ فرسٍ وقيل: أصابها أبُوه من العمالقةِ فورثها منه وقيل: خرجتْ من البحرِ لها أجنحةٌ فقعد يوماً بعد ما صلَّى الظُّهر على كرسيِّه فاستعرضَها فلم تزلْ تُعرض عليه حتَّى غربتِ الشَّمسُ وغفلَ عن العصرِ أو عن وِردٍ كان له من الذِّكرِ وقتئذٍ وتهيَّبُوه فلم يعلموه فاغتمَّ لما فاتَه فاستردَّها فعقَرها تقرباً لله تعالى وبقي مائةٌ فما في أيدي النَّاسِ من الجياد فمن نسلها وقيل: لمَّا عقرَها أبدلَه الله خيراً منها وهي الرِّيحُ تجري بأمره. { فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِى } قاله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عند غروب الشَّمسِ اعترافاً بما صدرَ عنه من الاشتغالِ بها عن الصَّلاةِ وندماً عليه وتمهيداً لما يعقبُه من الأمر بردِّها وعقرِها، والتَّعقيب باعتبار أواخرِ العرض المستمرِّ دون ابتدائِه والتَّأكيدُ للدِّلالةِ على أنَّ اعترافَه وندمَهُ عن صميم القلبِ لا لتحقيقِ مضمونِ الخيرِ، وأصلُ أحببتُ أنْ يعدَّى بعلى لأنَّه بمعنى آثرَ لكن لما أُنيب مُنابَ أنبتُ عُدِّي تعديتَه وحبَّ الخيرِ مفعولُه كأنَّه قيل: أنبتُ حبَّ الخيرِ عن ذكر ربِّـي ووضعتُه موضعه، والخبرُ المالُ الكثيرُ والمراد به الخيلُ التي شغلته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ويحتمل أنَّه سمَّاها خيراً لتعلُّق الخيرِ بها قال عليه الصَّلاة والسَّلام: " الخيرُ معقودٌ بنواصِي الخيلِ إلى يومِ القيامةِ " وقُرىء أنِّي { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } متعلِّق بقوله أحببتُ باعتبار استمرار المحبَّةِ ودوامِها حسب استمرارِ العرضِ أي أنبتُ حبَّ الخيرِ عن ذكر ربِّـي واستمرَّ ذلك حتَّى توارتْ أي غربتْ الشَّمسُ تشبـيهاً لغروبِها في مغربِها بتوارى المخبأةِ بحجابها، وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها وقيل: الضمير للصافنات أي توارتْ بحجابِ اللَّيلِ أي بظلامِه.