الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } * { وَعَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } * { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }

{ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ } وعيدٌ لهم على كُفرهم واستكبارِهم ببـيان ما أصاب مَن قبلهم من المُستكبرينَ. وكم مفعولُ أهلكنا، ومِن قرنٍ تميـيزٌ والمعنى وقرناً كثيراً أهلكنا من القُرون الخاليةِ { فَنَادَوْاْ } عند نزول بأسنِا وحلول نقمتِنا استغاثةً وتوبةً لينجُوا من ذلك. وقولُه تعالى: { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } حالٌ من ضمير نادَوا واستغاثوا طلباً للنَّجاةِ والحالُ أنْ ليسَ الحينُ حينَ مناصٍ أي فوتٍ ونجاةٍ، من ناصَه أي فاتَه لا من ناصَ بمعنى تأخَّر، ولا: هيَ المشبَّهةُ بليسَ زيدتْ عليها تاءُ التَّانيثِ للتَّأكيدِ كما زِيدتْ على رُبَّ وثُمَّ. وخُصَّتْ بنفي الأحيانِ ولم يبرزْ إلا أحدُ معمُوليها والأكثرُ حذفُ اسمِها. وقيلَ هي النَّافيةُ للجنسِ زيدتْ عليها التَّاءُ وخصَّتْ بنفيِ الأحيانِ، وحينَ مناصٍ. منصوبٌ على أنَّه اسمُها أي ولا حينَ مناصٍ. وقُرىء بالرَّفعِ فهو على الأوَّلِ اسمُها والخبرُ محذوفٌ أي وليسَ حينُ مناصٍ حاصلاً لهم وعلى الثَّانِي مبتدأُ محذوفُ الخبرِ أي ولا حينُ مناصٍ كائنٌ لهم وقُرىء بالكسرِ كما في قوله: [الخفيف]
طلبُوا صلحَنا ولاتَ أوان   فأجبنا أنْ لاتَ حينِ بقاءِ
إمَّا لأنَّ لاتَ تجرُّ الأحيانَ كما أنَّ لولا تجرُّ الضَّمائرَ في نحوِ قوله: [السريع]
[أومَتْ بكفَّيها من الهودجِ]   لولاكَ هذا العامَ لم أحجُجِ
أو لأنَّ أوانٍ شُبِّه بإذْ في قوله: [الوافر]
نهيتُكَ عن طِلابِكَ أمَّ عمرو   بعافيةٍ وأنتَ إذٍ صحيحُ
في أنَّه زمانٌ قُطع منه المضافُ إليه وعُوِّض التَّنوين لأنَّ أصلَه أوانُ صُلحٍ ثم حُمل عليه حينِ مناصٍ تنزيلاً لقطعِ المضافِ إليه من مناصٍ إذْ أصلُه حينَ مناصِهم منزلَة قطعِه من حينٍ لما بـينَ المضافينِ من الإتِّحادِ ثمَّ بنُي الحينُ لإضافتِه إلى غيرِ مُتمكِّنٍ. وقُرىء لاتِ بالكسرِ كجَيْرِ. ويقفُ الكوفيُّون عليها بالهاءِ كالأسماءِ والبصريُّون بالتاءِ كالأفعالِ. وما قيل: منْ أنَّ التَّاءَ مزيدةٌ على حينٍ لاتِّصالِها به في الإمامِ مما لا وجهَ له فإنَّ خطَّ المصحفِ خارجٌ عن القياسِ. { وَعَجِبُواْ أَن جَاءكُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ } حكايةٌ لأباطيلِهم المتفرِّعةِ على ما حُكي من استكبارِهم وشقاقِهم أي عجبُوا من أنْ جاءهم رسولٌ من جنسِهم بل أدونُ منهم في الرِّياسةِ الدُّنيويَّةِ والمالِ على معنى أنَّهم عدُّواً ذلك أمراً عجيباً خارجاً عن احتمالِ الوقوعِ وأنكرُوه أشدَّ الإنكارِ لا أنَّهم اعتقدُوا وقوعَه وتعجَّبوا منه { وَقَالَ ٱلْكَـٰفِرُونَ } وُضعَ فيه الظَّاهرُ موضعَ الضَّميرِ غضباً عليهم وإيذاناً بأنَّه لا يتجاسرُ على مثل ما يقولونَه إلا المتوغِّلون في الكُفر والفسوق { هَـٰذَا سَـٰحِرٌ } فيما يُظهره من الخوارقِ { كَذَّابٌ } فيما يُسنده إلى الله تعالى من الإرسالِ والإنزالِ { أَجَعَلَ ٱلاْلِهَةَ إِلَـٰهاً وٰحِداً } بأنْ نفى الأُلوهيَّةَ عنهم وقَصرَها على واحدٍ { إِنَّ هَـٰذَا لَشَىْء عُجَابٌ } بليغٌ في العَجَبِ وذلك لأنَّه خلافُ ما ألِفُوا عليهِ آباءَهم الذينَ أجمعُوا على ألوهيَّتِهم وواظبُوا على عبادتِهم كابراً عن كابرٍ فإنَّ مدارَ كلِّ ما يأتُون وما يذرُون من أمورٍ دينِهم هو التَّقليدُ والاعتيادُ فيعدُّون ما يخالفُ ما اعتادُوه عجيباً بل مُحالاً.

السابقالتالي
2