الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } * { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ }

{ إِنَّ هَذَا أَخِى } استئنافٌ لبـيان ما فيه الخُصومة أي أخي في الدِّينِ أو في الصُّحبةِ، والتَّعرُّضُ لذلك تمهيدٌ لبـيان كمال قبحِ ما فعل به صاحبُه { لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ وٰحِدَةٌ } هي الأُنْثى من الضَّأْنِ وقد يُكنى بها عن المرأةِ والكنايةُ والتَّعريضُ أبلغُ في المقصودِ. وقُرىء تَسعٌ وتَسعونَ بفتحِ التَّاءِ ونعِجة بكسر النُّونِ. وقُرىء وليْ نعجةٌ بسكونِ الياءِ. { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } أي ملِّكنْيِها، وحقيقتُه اجعلِني أكفُلُها كما أكفلُ ما تحتَ يدي، وقيل: اجعلْها كِفْلي أي نَصيبـي. { وَعَزَّنِى فِى ٱلْخِطَابِ } أي غلبنِي في مخاطبتِه إيَّاي محاجَّةً بأنْ جاء بحجاجٍ لم أقدرْ على ردِّه في مغالبته إيَّاي. أو في الخِطبةِ يقال خَطَبتُ المرأةَ وخَطبها هو فخاطبني خِطاباً أي غالبني في الخِطبة فغلبنِي حيثُ زُوِّجها دُوني. وقُرىء وعازَّني أي غالبني وعَزَنِي بتخفيف الزَّاي طلباً للخفَّةِ، وهو تخفيفٌ غريبٌ كأنَّه قيسَ على ظِلْتُ ومِسْتُ { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ } جوابُ قسمٍ محذوفٍ قصد به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المبالغةَ في إنكار فعل صاحبه وتهجِينَ طمعِه في نعجةِ من ليس له غيرُها مع أنَّ له قطيعاً منها ولعلَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال ذلك اعترافِ صاحبهِ بما ادَّعاه عليه، أو بناهُ على تقدير صدقِ المدَّعِي. والسُّؤالُ مصدرٌ مضافٍ إلى مفعولِه، وتعديتُه إلى مفعولٍ آخرَ بإلى لتضمُّنه معنى الإضافةِ والضمِّ. { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلْخُلَطَاء } أي الشُّركاءِ الذين خلطُوا أموالَهم { لَيَبْغِي } ليتعدَّى. وقُرىء بفتح الياء على تقدير النُّون الخفيفةِ وحذفها وبحذف الياءِ اكتفاءً بالكسرةِ { بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } غير مراعٍ لحقِّ الصُّحبةِ والشِّركةِ. { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } منهم فإنَّهم يتحامَون عن البغي والعُدوانِ { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } أي وهم قليلٌ وما مزيدةٌ للإبهام والتَّعجبِ من قلَّتِهم، والجملةُ اعتراضٌ { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ } الظنُّ مستعارٌ للعلمِ الاستدلاليِّ لما بـينهما من المشابهةِ الظَّاهرةِ أي عَلِمَ بما جرى في مجلس الحُكومةِ. وقيل: لما قَضَى بـينهما نظرَ أحدُهما إلى صاحبِه فضحكَ ثم صعدَا إلى السَّماءِ حيال وجهِه فعلم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه تعالى ابتلاهُ. وليس المعنى على تخصيص الفتنةِ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ دون غيرِه بتوجيِه القصرِ المُستفادِ من كلمة إنَّما إلى المفعول بالقياس إلى مفعولٍ آخرَ كما هو الاستعمالُ الشَّائعُ الوارد على توجيِه القصرِ إلى متعلِّقات الفعلِ وقيوده باعتبار النَّفي فيه والإثباتِ فيها كما في مثلِ قولِك إنَّما ضربتُ زيداً وإنَّما ضربته تأديباً بل على تخصيص حالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالفتنةِ بتوجيه القصر إلى نفسِ الفعلِ بالقياس إلى ما يُغايره من الأفعالِ لكن لا باعتبار النَّفي والإثبات معاً في خُصوصية الفعل فإنَّه غيرُ ممكنٍ قطعاً بل باعتبار النَّفي فيما فيه من معنى مُطلقِ الفعلِ واعتبار الإثبات فيما يقارنه من المعنى المخصُوص فإنَّ كلَّ فعلٍ من الأفعال المخصُوصة ينحلُّ عند التَّحقيقِ إلى معنى مطلقٍ هو مدلولُ لفظِ الفعلِ وإلى معنى مخصُوص يُقارنه ويقيِّده وهو أثرُه في الحقيقةِ فإنَّ معنى نَصَر مثلاً فعلَ النَّصرَ يُرشدك إلى ذلك قولُهم معنى فلان يُعطي ويَمنعُ: يفعلُ الإعطاءَ والمنعَ فموردُ القصرِ في الحقيقةِ ما يتعلَّق بالفعلِ باعتبار النَّفي فيه والإثبات فيما يتعلَّق به، فالمعنى: وعلَم داودُ عليه السَّلامُ أنَّما فعلنا به الفتنةَ لا غيرَ.

السابقالتالي
2 3