الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي ٱلْجَحِيمِ } * { فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَسْفَلِينَ } * { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } * { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ } * { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ }

{ قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَـٰناً فَأَلْقُوهُ فِى ٱلْجَحِيمِ } أي في النَّارِ الشَّديدةِ الاتِّقادِ من الجحمةِ وهي شدَّةُ التَّأجُّجِ، واللاَّم عوضٌ من المضاف إليه أي جحيم ذلك البنيانِ وقد ذكر كيفية بنائهم له في سورة الأنبـياء { فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلام لمَّا قهرهم بالحجَّةِ وألقمهم الحجرَ قصدُوا ما قصدُوا لئلاَّ يظهرَ للعامَّةِ عجزُهم { فَجَعَلْنَـٰهُمُ ٱلأَسْفَلِينَ } الأذلِّين بإبطال كيدِهم وجعله برهاناً نيِّراً على علوّ شأنهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يجعل النَّارِ عليه بَرْداً وسَلاماً { وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبّى } أي مهاجرٌ إلى حيثُ أمرني ربِّـي كما قال إنِّي مهاجرٌ إلى ربِّـي وهو الشَّامُ أو إلى حيث أتجرَّدُ فيه لعبادته تعالى { سَيَهْدِينِ } أي إلى ما فيه صلاحُ ديني أو إلى مقصدي وبت القول بذلك لسبقِ الوعدِ أو لفرط توكِّله أو للبناء على عادته تعالى معه ولم يكُن كذلك حالُ موسى عليه السَّلامُ حيث قال:عَسَىٰ رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء ٱلسَّبِيلِ } [سورة القصص: الآية 22] ولذلك أتى بصيغة التَّوقُّعِ.

{ رَبّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينِ } أي بعضَ الصَّالحينَ يعينني على الدَّعوةِ والطَّاعةِ ويؤنسني في الغُربةِ يعني الولد لأن لفظَ الهبة على الإطلاقِ خاصٌّ به وإن كان قد وردَ مقيَّداً بالأخوةِ في قوله تعالى:وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَـٰرُونَ نَبِيّاً } [سورة مريم: الآية 53] ولقوله تعالى: { فَبَشَّرْنَـٰهُ بِغُلَـٰمٍ حَلِيمٍ } فإنَّه صريح في أنَّ المبشَّر به عينُ ما استوهبه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولقد جمع فيه بشاراتٌ ثلاثٌ: بشارةُ أنَّه غلامٌ وأنَّه يبلغُ أوانَ الحُلُم وأنَّه يكونُ حَليماً، وأيُّ حِلْمٍ يُعادل حلمَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين عرضَ عليه أبُوه الذَّبحَ فقال:يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ } [سورة الصافات: الآية 102] وقيل ما نعتَ اللَّهُ الأنبـياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بأقلَّ ممَّا نعتهم بالحِلْمِ لعزَّةِ وجودهِ غيرَ إبراهيمَ وابنه فإنَّه تعالى نعتهما به وحالهما المحكيَّةُ بعد أعدلُ بـينةٍ بذلك.

والفاءُ في قوله تعالى: { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ } فصيحةٌ معربة عن مقدَّرٍ قد حُذف تعويلاً على شهادةِ الحال وإيذاناً بعدمِ الحاجة إلى التَّصريحِ به لاستحالةِ التَّخلُّفِ والتَّأخُّرِ بعد البشارة كما مرَّ في قوله تعالى:فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } [سورة يوسف: الآية 31] وفي قوله تعالى:فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } [سورة النمل: الآية 40] أي فوهبناه له فنشأ فلمَّا بلغَ رتبةَ أنْ يسعى معه في أشغالهِ وحوائجهِ. ومعه متعلِّق بمحذوفٍ يُنبىء عنه السَّعيُ لا بنفسِه لأنَّ صلة المصدرِ لا تتقدَّمُه ولا يبلغ لأنَّ بلوغَهما لم يكن معاً كأنَّه لما ذُكر السَّعيُ قيل مع مَن فقيل مَعَه وتخصيصُه لأنَّ الأبَ أكملُ في الرِّفقِ والاستصلاحِ فلا يستسيغُه قبل أوانهِ أو لأنَّه استوهبه لذلك وكان له يومئذٍ ثلاثَ عشرة سنةً.

{ قَالَ } أي إبراهيمُ عليه السَّلامُ { يٰبُنَىَّ إِنّى أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ } أي أرى هذه الصُّورة بعينها أو ما هذه عبارتُه وتأويلُه وقيل إنه رأى ليلةَ التَّرويةِ كأنَّ قائلاً يقول له: إنَّ الله يأمُرك بذبحِ ابنِك هذا فلمَّا أصبحَ رَوَّى في ذلك من الصَّباحِ إلى الرَّواحِ أمنَ اللَّهِ هذا الحُلُم أم من الشَّيطانِ، فمن ثمة سُمِّي يوم التَّرويةِ فلمَّا أمسى رأى مثلَ ذلك فعرفَ أنَّه من اللَّهِ تعالى فمن ثمَّة سمِّي يومَ عرفة ثم رأى مثله في اللَّيلةِ الثَّالثةِ فهمَّ بنحرهِ فسمِّي اليوم يومَ النَّحرِ.

السابقالتالي
2