الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } * { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } * { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ } * { فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ }

{ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } بهذا الحكمِ الذي يَقضي ببطلانِه بديهةُ العقلِ { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } بحذفِ إحدى التَّاءينِ من تتذكَّرون، وقُرىء تذكُرون من ذَكَر، والفاءُ للعطفِ على مقدَّرٍ أي أَلاَ تُلاحِظُون ذلك فلا تتذكَّرون بطلانَهُ فإنَّه مركوزٌ في عقلِ كلِّ ذكيَ وغبـيَ.

{ أَمْ لَكُمْ سُلْطَـٰنٌ مُّبِينٌ } إضرابٌ وانتقالٌ من توبـيخِهم وتبكيتِهم بما ذُكر إلي تبكيتِهم بتكليفِهم ما لا يدخلُ تحتَ الوجودِ أصلاً أي بل ألكُم حجَّةٌ واضحةٌ نزلتْ عليكم من السَّماءِ بأنَّ الملائكةَ بناتُه تعالى ضرورةَ أنَّ الحكمَ بذلك لا بُدَّ له من سندٍ حسيَ أو عقلي وحيثُ انتفى كلاهُما فلا بُدَّ من سندٍ نقليَ { فَأْتُواْ بِكِتَـٰبِكُمْ } النَّاطقِ بصَّحةِ دَعْواكم { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } فيها وفي هذه الآياتِ من الإنباءِ عن السُّخطِ العظيمِ والإنكارِ الفظيعِ لأقاويلهم والاستبعادِ الشَّديدِ لأباطيلِهم وتسفيِه أحلامِهم وتركيكِ عقولِهم وأفهامِهم مع استهزاءٍ بهم وتعجيبٍ من جهلِهم مَا لا يَخْفى عَلَى من تأمَّل فيها. وقولُه تعالَى:

{ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً } التفاتٌ إلى الغَيبةِ للإيذانِ بانقطاعِهم عن الجوابِ وسقوطِهم عن درجةِ الخطابِ واقتضاءِ حالِهم أنْ يعرضَ عنهم وتُحكى جناياتُهم لآخرينَ والمرادُ بالجِنَّةِ الملائكةُ قالوا الجنسُ واحدً ولكنْ من خَبُثَ من الجنِّ ومَرَد وكان شرَّاً كله فهو شيطانٌ ومن طهر منهم ونسكَ وكان خيراً كله فهو مَلَكٌ وإنَّما عبَّر عنهم بذلك الاسمِ وَضْعاً منهم وتَقصيراً بهم مع عِظَمِ شأنِهم فيما بـينَ الخلقِ أنْ يبلغُوا منزلةَ المناسبة التي أضافُوها إليهم فجعلهم هذا عبارةً عن قولهم الملائكةُ بناتُ الله وإنَّما أُعيد ذكُره تمهيداً لما يعقبُه من قوله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي وبالله لقد علمتْ الجِنَّةُ التي عظَّموها بأنْ جعلُوا بـينها وبـينه تعالى نَسَباً وهم الملائكةُ أنَّ الكفرةَ لمحضرونَ النَّار معذَّبُون بها لكذبِهم وافترائِهم في قولِهم ذلك، والمرادُ به المبالغةُ في التَّكذيبِ ببـيانِ أنَّ الذين يدَّعي هؤلاء لهم تلك النِّسبةَ ويعلمون أنَّهم أعلمُ منهم بحقيقةِ الحالِ يكذبونهم في ذلك ويحكمُون بأنَّهم معذَّبون لأجلِه حُكماً مؤكَّداً وقيل: إنَّ قوماً من الزَّنادقةِ يقولون: الله تعالى وإبليسُ أخوانِ فالله هو الخيِّرُ الكريمُ وإبليسُ هو الشَّرُّ اللَّئيمُ وهو المرادُ بقوله تعالى: { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً }. قال الإمامُ الرَّازيُّ وهذا القولُ عندي أقربُ الأقاويلِ وهو مذهبُ المجوسِ القائلين بَـيزْدانَ واهْرمنْ منْ. وقال مجاهدٌ قالتْ قُريشٌ: الملائكةُ بناتُ الله فقال أبُو بكرٍ الصِّديقُ رضي الله عنه: فمنْ أمهاتهم تبكيتاً لهمُ؟ فقالوا سَرَواتُ الجنِّ وقيل: معنى جعلُوا بـينه وبـين الجِنَّةِ نَسَباً جعلُوا بـينهما مناسبةً حيثُ أشركُوا به تعالى الجنَّ في استحقاف العبادةِ فعلى هذه الأقاويلِ يجوزُ أنْ يكونَ الضَّميرُ في إنَّهم لمحضرون للجنَّة فالمَعنى لقد علمتِ الشَّياطينُ أنَّ الله تعالى يحضرهم النَّارَ ويُعذبهم بها ولو كانُوا مناسبـينَ له تعالى أو شركاءَ في استحقافِ العبادةِ لمَّا عذَّبهم والوجهُ هو الأوَّلُ فإنَّ قوله: