الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } * { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ }

فقولُه تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً } معطوفٌ حينئذٍ على الجُملة المنفيَّةِ داخلٌ في حيِّز الإنكارِ والتَّقبـيحِ، وأمَّا على التَّقديرِ الأوَّلِ فهو عطفٌ على الجملة الفُجائيَّةِ، والمعنى ففاجأ خصومتنا وضربَ لنا مَثَلاً أي أوردَ في شأنِنا قصَّةً عجيبةً في نفس الأمرِ هي في الغرابةِ والبُعدِ عن العقولِ كالمَثَلِ، وهي إنكارُ إحيائنا العظامَ أو قصَّةً عجيبةً في زعمه واستبعدَها وعدَّها من قبـيلِ المَثَلِ وأنكرَها أشدَّ الإنكارِ وهي إحياؤُنا إيَّاها وجعلَ لنا مَثَلاً ونظيراً من الخلقِ وقاسَ قُدرتنا على قُدرتهِم ونفى الكلَّ على العمومِ. وقوله تعالى: { وَنَسِيَ خَلْقَهُ } أي خلقَنا إيَّاهُ على الوجهِ المذكورِ الدَّالِّ على بُطلانِ ما ضربه. إمَّا عطفٌ على ضربَ داخلٌ في حيِّزِ الإنكارِ والتَّعجيبِ أو حالٌ من فاعله بإضمارِ قَدْ أو بدونه. وقولُه تعالى: { قَالَ } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤالٍ نشأ من حكايةِ ضربهِ المثلَ كأنَّه قيل أيَّ مَثَلٍ ضربَ أو ماذا قال فقيل قال: { مَن يُحيي ٱلْعِظَـٰمَ } منكِراً له أشدَّ النَّكيرِ مؤكِّداً له بقوله تعالى: { وَهِىَ رَمِيمٌ } أي باليةٌ أشدَّ البلى بعيدةٌ من الحياةِ غاية البُعدِ فالمَثَلُ على الأوَّلِ هو إنكارُ إحيائهِ تعالى للعظامِ فإنَّه أمرٌ عجيبٌ في نفسِ الأمرِ حقيقٌ لغرابتهِ وبُعدهِ من العقولِ بأنْ يُعدَّ مثلاً ضرورةَ جزمِ العقول ببطلانِ الإنكارِ ووقوعِ المنكرِ لكونهِ كالإنشاءِ بل أهونُ منه في قياسِ العقلِ، وعلى الثَّاني هو إحياؤُه تعالى لها فإنَّه أمرٌ عجيبٌ في زعمهِ قد استبعدَهُ وعدَّه من قبـيلِ المثل وأنكرَهُ أشدَّ الإنكارِ مع أنَّه في نفسِ الأمرِ أقربُ شيءٍ من الوقوعِ لما سبقَ من كونه مثلَ الإنشاءِ أو أهونَ منه، وأما على الثَّالثِ فلا فرقَ بـين أنْ يكون المَثَلُ هو الإنكارَ أو المنكرَ. وعدمُ تأنيثِ الرَّميمِ مع وقوعهِ خبراً للمؤنَّثِ لأنَّه اسمٌ لما بَلِيَ من العظامِ غير صفة كالرُّفاتِ، وقد تمسَّك بظاهرِ الآيةِ الكريمةِ من أثبتَ للعظمِ حياةً وبنى عليه الحكم بنجاسةِ عظمِ الميتةِ، وأما أصحابُنا فلا يقولونَ بحياته كالشَّعرِ ويقولون المرادُ بإحياءِ العظامِ ردُّها إلى ما كانتْ عليهِ من الغضاضةِ والرُّطوبةِ في بدنٍ حيَ حسَّاسٍ { قُلْ } تبكيتاً له بتذكيرِ ما نسيَه من فطرته الدالَّةِ على حقيقةِ الحال وإرشاده إلى طريقةِ الاستشهادِ بها { يُحْيِيهَا ٱلَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } فإنَّ قدرتَهُ كما هي لاستحالةِ التَّغير فيها والمادَّةُ على حالِها { وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } مبالغٌ في العلمِ بتفاصيلِ كيفيَّاتِ الخلقِ والإيجادِ إنشاءً وإعادةً محيطٌ بجميعِ الأجزاءِ المتفتتة المتبدِّدةِ لكلِّ شخصٍ من الأشخاصِ أصولها وفروعها وأوضاعِ بعضها من بعضٍ من الاتِّصالِ والانفصالِ والاجتماعِ والافتراقِ فيعيدُ كلاًّ من ذلك على النَّمطِ السَّابقِ مع القُوى التي كانتْ قبلُ. والجملةُ إما اعتراضٌ تذيـيليٌّ مقرِّرٌ لمضمونِ الجوابِ أو معطوفةٌ على الصِّلةِ.

السابقالتالي
2