الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ }

{ أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍ } كلام مستأنفٌ مسوق لبـيان بطلانِ إنكارِهم البعثِ بعد ما شاهدوا في أنفسِهم أوضحَ دلائلهِ وأعدلَ شواهده كما أن ما سبق مسوق لبـيان بطلانِ إشراكهم بالله تعالى بعدما عاينُوا فيما بأيديهم ما يوجب التَّوحيدَ والإسلامَ وأما ما قيلَ من أنَّه تسليةٌ ثانيةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم بتهوينِ ما يقولونَهُ بالنِّسبةِ إلى إنكارِهم الحشرَ فكَلاَّ والهمزةُ للإنكارِ والتَّعجيبِ والواوُ للعطفِ على جملةٍ مقدَّرةٍ هي مستتبعة للمعطوفِ كما مرَّ في الجملة الإنكارية السابقةِ أي ألم يتفكر الإنسانُ ولم يعلم علماً يقينياً أنا خلقناهُ من نطفةٍ الخ أو هي عين الجملة السابقةِ أعيدتْ تأكيداً للنكيرِ السَّابقِ وتمهيداً لإنكارِ ما هو أحقُّ منه بالإنكارِ والتَّعجيبِ لما أنَّ المنكرَ هناك عدمُ علمهِم بما يتعلَّقُ بخلقِ أسبابِ معايشهم وهٰهنا عدمُ علمهم بما يتعلَّق بخلقِ أنفسهم. ولا ريبَ في أن علمَ الإنسانِ بأحوالِ نفسهِ أهمُّ وإحاطته بها أسهلُ وأكملُ، فالإنكارُ والتَّعجيبُ من الإخلالِ بذلك أدخلُ كأنَّه قيل ألم يعلمُوا خلقَه تعالى لأسبابِ معايشهم ولم يعلمُوا خلقَه تعالى لأنفسِهم أيضاً مع كونِ العلمِ بذلك في غايةِ الظُّهور ونهايةِ الأهميةِ على معنى أنَّ المنكر الأول بعيدٌ قبـيحٌ والثاني أبعدُ وأقبحُ ويجوزُ أنْ تكونَ الواوُ لعطفِ الجملةِ الإنكاريَّةِ الثَّانيةِ على الأُولى على أنَّها متقدِّمة في الاعتبارِ وأنَّ تقدمَ الهمزةِ عليها لاقتضائها الصَّدارة في الكلامِ كما هو رأيُ الجمهورِ وإيرادُ الإنسانِ موردَ الضَّميرِ لأنَّ مدارَ الإنكارِ متعلِّقٌ بأحوالهِ من حيثُ هو إنسانٌ كما في قوله تعالى:أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } [سورة مريم: الآية 67] وقولُه تعالى: { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } أي شديدُ الخُصومةِ والجدالِ بالباطلِ. عطفٌ على الجملةِ المنفيَّةِ داخلٌ في حيِّزِ الإنكارِ والتَّعجيبِ كأنَّه قيل أولم يَرَ أنَّا خلقناهُ من أخسِّ الأشياءِ وأمهنِها ففاجأ خصومتنا في أمرٍ يشهدُ بصحَّتهِ وتحقُّقهِ مبدأُ فطرته شهادةً بـيِّنةً. وإيرادُ الجملةِ الاسميَّةِ للدِّلالةِ على استقرارِه في الخُصومةِ واستمرارِه عليها. رُوي " أنَّ جماعةً من كفَّارِ قُريشٍ منهم أُبـيُّ بن خَلَفٍ الجُمحيُّ وأبُو جهلٍ والعاصِ بنُ وائلٍ والوليدُ بنُ المغيرة تكلَّموا في ذلكَ فقال لهم أبـيُّ بنُ خلفٍ: ألا ترون إلى ما يقولُ محمدٌ: " إنَّ اللَّهَ يبعثُ الأمواتَ " ثم قال: واللاَّتِ والعُزَّى لأَصيرنَّ إليه ولأخصِمنَّه وأخذ عظماً بالياً فجعل يفتُّه بـيدِه ويقولُ: يا محمَّدُ أترى الله يُحيـي هذا بعدما رُمَّ قال صلى الله عليه وسلم: " نعم ويبعثُك ويُدخلكَ جهنَّم " فنزلتْ. وقيل معنى قوله تعالى:فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } [سورة يونس: الآية 77] فإذا هُو بعدما كانَ ماءً مَهيناً رجلٌ مميِّزٌ منطيقٌ قادرٌ على الخصامِ مبـينٌ مُعرِبٌ عمَّا في نفسِه فصيحٌ، فهو حينئذٍ معطوفٌ على خلقنا غيرُ داخلٍ تحت الإنكار والتَّعجيبِ بل هو من مُتمَّماتِ شواهدِ صحَّةِ البعثِ.