الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ } * { وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } * { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ }

{ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ } بـيانٌ لشأنٍ عظيمٍ بنطوي على الإنذارِ والتَّبشيرِ انطواءً إجماليَّاً أي نبعثُهم بعد مماتِهم. وعن الحسنِ إحياؤهم إخراجُهم من الشِّركِ إلى الإيمانِ فهو حينئذٍ عدةٌ كريمةٌ بتحقيق المُبشَّر به { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ } أي ما أسلفُوا من الأعمالِ الصَّالحةِ وغيرِها { وَءاثَارَهُمْ } التي أبقوها من الحسناتِ كعلمٍ علمُوه أو كتابٍ ألَّفُوه أو حبـيسٍ وقفُوه أو بناءٍ بنوَه من المساجدِ والرِّباطاتِ والقناطرِ وغيرِ ذلك من وجوهِ البرِّ ومن السَّيئاتِ كتأسيسِ قوانينِ الظُّلمِ والعُدوانِ وترتيبِ مبادِىء الشَّرِّ والفسادِ فيما بـين العبادِ وغيره ذلكَ من فُنون الشُّرور التي أحدثُوها وسنُّوها لمن بعدهم من المُفسدين. وقيل هي آثارُ إلى المشَّائينَ إلى المساجدِ ولعلَّ المرادَ أنَّها من جُملةِ الآثارِ. وقُرىء ويُكتب على البناء للمفعولِ ورفعِ آثارَهم.

{ وَكُلَّ شىْء } من الأشياءِ كائناً ما كانَ { أَحْصَيْنَـٰهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ } أصلٍ عظيمِ الشَّأنِ مظهر لجميعِ الأشياءِ ممَّا كان وما سيكونُ وهو اللَّوحُ المحفوظُ. وقُرىء كلُّ شيءٍ بالرَّفعِ. { وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَـٰبَ ٱلقَرْيَةِ } ضربُ المَثَلِ يُستعملُ تارةً في تطبـيقِ حالةٍ غريبةٍ بحالةٍ أُخرى مثلِها كما في قوله تعالى:ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ } [سورة التحريم: الآية 10] وأخرى في ذكر حالةٍ غريبةٍ وبـيانِها للنَّاس من غير قصدٍ إلى تطبـيقِها بنظيرةِ لها كما في قوله تعالى:وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأَمْثَالَ } [سورة إبراهيم: الآية 45] على أحدِ الوجهينِ أي بـيَّنا لكم أحوالاً بديعةً هي في الغرابةِ كالأمثالِ فالمَعْنى على الأوّلِ اجعلْ أصحابَ القريةِ مثلاً لهؤلاء في الغُلوِّ في الكفرِ والإصرارِ على تكذيبِ الرُّسلِ أي طبِّق حالَهم بحالهم على أنَّ مثلاً مفعولٌ ثانٍ لاضربْ وأصحابَ القريةِ مفعولُه الأوَّلَ أُخِّر عنه ليتَّصل به ما هو شرحُه وبـيانُه وعلى الثَّاني اذكُر وبـيِّن لهم قصَّةً هي في الغرابةِ كالمَثَل وقوله تعالى أصحابَ القريةِ بدلٌ منه بتقديرِ المضافِ أو بـيانٌ له والقريةُ أنطاكيِّةُ { إِذْ جَاءهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } بدلُ اشتمالٍ من أصحابَ القريةِ وهم رُسلُ عيسى عليه السَّلامُ إلى أهلِها ونسبةُ إرسالِهم إليهِ تعالى في قولِه:

{ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ } بناء على أنَّه كان بأمره تعالى لتكميلِ التَّمثيلِ وتتميم التَّسليةِ وهما يحيـى وبُولس، وقيل غيرُهما { فَكَذَّبُوهُمَا } أي فأتياهم فدعواهم إلى الحقِّ فكذَّبوهما في الرِّسالةِ { فَعَزَّزْنَا } أي قوَّينا يقال عزَّز المطرُ الأرضَ إذا لبَّدها. وقُرىء بالتَّخفيفِ من عزَّه إذا غلبَه وقهرَه. وحُذف المفعولُ لدلالة ما قبله عليه ولأنَّ المقصدَ ذكر المعزَّزِ به { بِثَالِثٍ } هو شَمعُون { فَقَالُواْ } أي جميعاً { إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } مُؤكِّدين كلامَهم لسبق الإنكارِ لما أنَّ تكذيبَهما تكذيبٌ للثَّالثِ لاتِّحادِ كلمتهم، وذلك أنَّهم كانوا عَبَدَة أصنام فأَرسل إليهم عيسى عليه السلام اثنينِ فلما قَرُبا من المدينة رأياً شيخاً يَرعى غُنيماتٍ له وهو حبـيبٌ النَّجارُ صاحبُ يسن فسألهما فأخبراهُ قال أمعكما آيةٌ فقالا نشفي المريضَ ونُبرىء الأكْمَه والأبرصَ وكان له ولدٌ مريضٌ منذ سنتينِ فمسحاهُ فقام فآمن حبـيبٌ وفشا الخبرُ وشُفي على أيديهما خلقٌ وبلغ حديثُهما إلى الملكِ وقال لهما ألنا إلهٌ سوى آلهتِنا قالا نعم من أوجدَك وآلهتَك فقال حتَّى أنظرَ في أمرِكما فتبعهما النَّاسُ، وقيل: ضربُوهما، وقيل: حُبسا.

السابقالتالي
2