الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ }

{ وَمَا يَسْتَوِى ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } مَثلٌ ضُرب للمؤمنِ والكافرِ. والفُراتُ: للذي يكسرُ العطشَ والسَّائغُ الذي يَسهلُ انحدارُه لعذوبتِه. والأُجاج الذي يحرقُ بملوحتِه. وقُرىء سيِّغ كَسيِّد وسَيْغٌ بالتَّخفيفِ. ومَلِح ككَتِفٍ. وقوله تعالى: { وَمِن كُلّ } أي من كلِّ واحدٍ منهما { تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ } أي من المالحِ خاصَّةً { حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } إمَّا استطرادٌ في صفةِ البحرينِ وما فيهما من النِّعمِ والمنافعِ، وإمَّا تكملةٌ للتَّمثيلِ. والمعنى كما أنَّهما وإن اشتركا في بعضِ الفوائدِ لا يتساويانِ من حيثُ أنَّهما متفاوتانِ فيما هو المقصودُ بالذَّاتِ من الماءِ لمَّا خالطَ أحدهما ما أفسدَه وغيَّره عن كمال فطرته لا يساوي الكافرُ المؤمنَ وإنْ شاركه في بعض الصِّفاتِ كالشَّجاعةِ والسَّخاوةِ ونحوهما لتباينهما فيما هو الخاصيَّةُ العُظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصليَّةِ وحيازتِه لكماله اللائقِ دون الآخر أو تفضيلٌ للأُجاجِ على الكافرِ من حيثُ أنَّه يشارك العذبَ في منافعَ كثيرةٍ والكافرُ خِلْوٌ من المنافعِ بالكُلِّية على طريقةِ قوله تعالى:ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَـٰرُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخرُجُ مِنْهُ ٱلْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللهِ } [سورة البقرة: الآية 74] والمرادُ بالحلية اللؤلؤُ والمرجانُ { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ } أي في كلَ منهما. وإفرادُ ضميرِ الخطابِ مع جمعِه فيما سبقَ وما لحقَ لأنَّ الخطابَ لكُلِّ أحدٍ تتأتَّى منه الرُّؤيةُ دونَ المنتفعينَ بالبحرينِ فَقَطْ { مَوَاخِرَ } شواقَّ للماءِ بجريها مقبلةً ومدبرةً بريحٍ واحدةٍ { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } من فضلِ الله تعالى بالنقلة فيها واللام متعلِّقة بمواخرَ وقد جُوِّز تعلُّقها بما يدلُّ عليه الأفعالُ المذكورةُ أي فعلَ ذلك لتبتغُوا من فضلِه { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي ولتشكُروا على ذلك. وحرفُ التَّرجِّي للإيذانِ بكونِه مرضياً عند الله تعالى. { يُولِجُ ٱللَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ } بزيادةِ أحدِهما ونقصِ الآخرِ بإضافةِ بعضِ أجزاءِ كلَ منهما إلى الآخرِ { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } عطفٌ على يُولج. واختلافُهما صيغةً لما أنَّ إيلاجَ أحدِ المَلَوينِ في الآخر متجددٌ حيناً فحيناً، وأمَّا تسخِّيرُ النيرِّينِ فأمرٌ لا تعدُّدَ فيه وإنَّما المتعددُ والمتجددُ آثارُه. وقد أُشير إليهِ بقولِه تعالى: { كُلٌّ يَجْرِى } أي بحسبِ حركتِه الخاصَّةِ وحركتِه القسريةِ على المداراتِ اليوميَّةِ المُتعدِّدةِ حسب تعدُّدِ أيَّام السَّنةِ جَرياناً مستمرَّاً { لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى } قدَّره الله تعالى لجريانهما وهو يومُ القيامةِ كما رُوي عن الحسنِ رحمه الله وقيل: جريانُهما عبارةٌ عن حركتيهما الخاصَّتينِ بهما في فلكيهما، والأجلُ المُسمَّى هو منتهى دورتيهما، ومدَّةُ الجريانِ للشَّمسِ سنةٌ وللقمرِ شهرٌ وقد مرَّ تفصيلُه في سُورة لقمانُ { ذٰلِكُمْ } إشارةٌ إلى فاعلِ الأفاعيلِ المذكورةِ، وما فيهِ من معنى البُعدِ للإيذانِ بغايةِ العظمةِ وهو مبتدأٌ وما بعدَه أخبارٌ مترادفةٌ أي ذلكُم العظيُم الشَّأنِ الذي أبدعَ هذه الصَّنائعَ البديعةَ { ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ } وفيه من الدِّلالةِ على أنَّ إبداعَه تعالى لتلك البدائعِ ممَّا يُوجبُ ثبوتَ تلك الأخبارِ له ما لا يخفى، ويجوزُ أنْ يكونَ الأخيرُ كلاماً مُبتدأً في مقابلةِ قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } للدِّلالةِ على تفرُّدِه تعالى بالأُلوهيَّةِ والرُّبوبـيَّةِ. وقُرىء يَدعُون بالياءِ التحتانيةِ. والقطميرُ لفافةُ النَّواةِ وهو مَثَلٌ في القلَّةِ والحقارةِ.